د. سيد شعبان

تجوب حارتنا حكايات مالها حصر، آلاف جاءوا ثم مضوا دون أن يتركوا بصمة، في بلاد تنام من المغرب وتصحو على سياط الذل، وحدها تفرد مساحة من ذاكرتها، أسرار خفية احتفظت بها؛ يوم ضرب وباء الكوليرا الناس؛ مات كثيرون، كان الطوفان الأصفر مثل رياح الخماسين غطى سماء المحروسة، تدوي صافرات الإنذار في فزع، يتملك...
انتفخت أوداجه وطالت لحيته في هذه العشرية التى ضرب أثداءها الجفاف؛ هل تراه يعاني مما يضرب الناس بسوطه؟ يجري الناس هلعا فثمة طاعون يهز العالم من حوله، أما هو فيمد رجليه ويتمطى في جلسة لا يحسن غيره إلا أن يقلده. أخذ يمد فمه الذي يشبه زلومة الفيل ويغمسها في قدرة المعلمة توحة التي تقف عند ناصية حارة...
لا تنشر هذا على الناس، أخشى أن تظن بنا الظنون، يكفينا ما مررنا به من محن، وما عانيناه من آلام، نحن نتهرب من ذواتنا، نتخفى وراء جدار يحجبنا عن أعين المتطفلين، هذه الكلمات وأنا أستعيد ذكرياتي منقوشة في تلافيف عقلي، يحلو للمرء أن يسرد أحداث عمره بينما هو متكيء على وسادته، هذه واحدة أما الأخرى فأنا...
تبقت في ذاكرتي حكاية لم تسرد بعد؛ الموتى يزورون القرية في ليالي العتمة، يتسللون من أكفانهم البيضاء، يأتون في ثياب جديدة، إن لهم نصائح لما يقدموها لمن خلفهم، يسري الليل وفي الشتاء حين تشتد الريح، تتوالى الطرقات على الأبواب، تموء القطط، نحن لا نضربها، إنها ترى العالم الآخر، ثمة أسرار لا نحيط بها،...
حارتنا محاطة بأسوار قديمة، كل الذين تركوا بصمتهم في التاريخ هدموا من أحجارها الكثير؛ والآن بوابة المتولي مصابة بداء جديد عجز الجميع عن معرفة أسبابه، سكن أبو النوام درب الدراويش على حين غفلة من أهله، جعلهم يتثاءبون كل لحظة، سرى النعاس إلى درب سعادة والسراجين وقلعة الكبش ودرب الهوى وحارة...
غبت فترة عن شغب العالم الذي يثقل كاهلي؛ آويت إلى جدار بيت أبي أتلمس أنفاسه؛ تخايلني صورته، ماتزال عصاته تعلو شراعة البيت الكبير؛ تحرص أمي أن تشعرنا ببركته؛ كثيرا ما تخبرنا عن أحواله؛ يمسك يالرمل فيصير بين يديه ذهبا، يروي أشجار الحديقة بعرقه، نوادره التي لاتخفى؛ مداعباته وأحاديثه يتناقلها الناس...
نثقل أنفسنا بتلك الألقاب المخايلة؛ أمير السرد وما يعلمه من نفسه القصور ومن بضاعته الكساد وأميرته تطرب للقب ملكي- وقد صار في المحروسة مما جرمته الجريدة الرسمية من وقائع الدهر وزهوة العصر. تراه عوض إمارة بسنان قلم وقد خلت المعارك من أسنة الرماح؛ تشدو وتختال تيها وما تظن أن وراء الأكمة ما يعجز...
ارتدت ثوبها الضيق الذي يضج مما تحته ويشكو حظه العاثر يوم ابتلي بهذه المرأة. تعطرت ودهنت خديها بما أوصتها به زوجة العطار؛ وتزينت؛ فقد ملت سنوات العنوسة وتسارع قطار عمرها؛ ظلت ليلتها الفائتة محتارة تتساءل في حيرة أي رجل ترمي بشباكها عليه وتصطاد؛ لعلها تخمد تلك النيران المشتعلة داخلها؟ الجارات من...
يظن البعض أن الكتابة ترف يفضي به الكاتب ووقت يضيعه، أو مشاغبة تحلو له من خلال مفردات يدونها هنا وهناك محاولة للتفرد واثبات القدرة على أن يتواجد في مجتمع الكتبة والمدونين. غير بعض تعلات هي أوهن من خيط العنكبوت مما يتلمسه القاريء من أوراق السيرة الذاتية أو مدونات الصحف الالكترونية. يمسك الكاتب...
الكلام حين يكثر ينسي بعضه بعضا، ورغم ذلك البوح إلا أن ثمة حكاية ما تزال تلح علي أن أمسك بالقلم وأسرد بعض تفاصيلها؛ فبرغم لكنة في لغتي، إلا أنني أجيد الحكي،هذا كل نصيبي من ثروة جدتي،تركت في ولعا بالحكايات ، مضى ذلك العمر سرابا، لم تعد الألوان زاهية كما عهدتها، الثياب صارت أشبه بلوحة سريالية، حتى...
لست أبتغي بكتابة سيرة أبي أن أظهره على غير صورته أو أجعل منه رجلا فوق الناس مما يدلس به الساردون لحيوات أهليهم؛ إنما هي صفحات أرسم بها ملامح زمن مضى، وصفحة قل أن يجدها الأحفاد الذين تناسلوا من عقبه؛ يحمدون ما يجدونه من سيرته وقد يطوي بعضهم تلك الأوراق غير آبه بما فيها من عالم مضى. دارت الأيام بي...
الطريق الذي كنت أمر منه كل يوم لمحطة القطار غابت معالمه،اليوم غلبني الحنين إلى الأيام الجميلة،الذكريات التى علقت بخيالي حاولت أن أستعيدها،المشاعر علاها بعض ركام كما تراب هذا الطريق،بدأت أعي قليلا،فهنا كانت تربض شجرة الجميز العملاقة حارسة المنحنى الموصل لمحطة القطار،قيل إن الجنية تسكن أشجار...
كان رحمة الله تعالي عليه يحب التبسط في كل شيء مع وقار لا يخفى، له مواقف تروى ونوادر شاعت بين أهل كفرنا؛ حدثني مرة حين كان صغيرا؛ أن أحد الناس فقد خمسة قروش- وكانت مبلغا لا يستهان به- دار البحث والتنقيب عليها في الزاوية وهي ملتقى الناس وموضع مسامراتهم، بحثوا عنها وأعياهم التعب؛ فأشار أبي رحمة...
في حارتنا باب خشبي كبير، دار عليه الزمن، جعلته الفئران ملهى ليليا، كنت أخاف المرور جواره، عليه تصاوير مفزعة، تسكن الشياطين البيوت العتيقة التي هجرها أهلها، سمعت عنه حكايات روتها جدتي؛ يوما ما كان يضج بالحياة، نوافذه كانت مشرعة، البنات الجميلات كن يترآين من نوافذه، شعورهن السابحات مثل اغصان...
التفت إلي والدي ثم نظر إلى تلك الرابضة كأنها حارس قوي،غرسها وحيدة من أخواتها، إنها هنا في حديقتنا منذ آماد؛ في الصيف تتدلى ثمارها أشبه بقناديل خضراء معلقة؛ يدير رأسه ناحيتي، يظل يبحث عن أفكاره التي يختزنها لأجل الصغار؛ في العيد نلتف حوله إنه عبق آل جادو الطيبين؛ رغم أنه اعتاد أن يكرر ما سرده؛...

هذا الملف

نصوص
482
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى