عبد الرزّاق بوتمزّار

(مهداة إلى سعيد حاجي) بعدما انتهيتُ من محادثة حكى لي فيها تفاصيل حكايته مع زائرته اللّيلية الاستثنائية، صرتُ أتوجّس من كلّ ظل أو خيال أو حركة أو سكون. انقلبت علاقتي بالمكان، التي ظلّت مبنية، طيلة أيام وأيام، على التساكن والتآلف، إلى حالة حذر وتوجّس دائمة. إن تحرّكت مجرّدُ ذبابة تافهة حولي خلتُ...
الرّابعة صباحاً وبعضُ دقائق. جسدٌ ضئيلٌ يتهادى في تعرّجات طريق خالية. رذاذُ ضباب غريب في مدينة غيرِ مُتعوّدة بعدُ على رذاذ ولا ضباب. النّسماتُ الباردة لا تجد سبيلاً لتلمَس الجسم إلا من خلال الوجه. المصابيح العمشاءُ ترسل أضواءها الشّحيحة، التي تُنير بالكاد طرقات الحيّ الناعس. الحشراتُ التي...
ألقى بجسده فوق المقعد وأشعل اللّمبة الصّغيرةَ، مادّاً يده اليمنى لجمع الصّرْف. إلى يمينه صديقان نقَداه دراهمه قبل أن يركبا وينخرطا في حديث ودّي تتخلّله ضحكات. الرّاكبُ الثالث شابّ يقف وحيدا، بملامحَ مُخيفة نوعاً ما، منتظراً، بتأفّف ظاهر، اكتمال العدد. وقفتُ قربَه وشرعتُ أفتّش في جيوبي الكثيرة...
فـلا أُقسمُ بالمـدينـة الظـّامئـة ولا أُقْسم بشمـسِ الزّمان الحارقة ولكـنْ بوجوه المقهورين الكالحَة ورائحة الأجساد المُتقـرّحَة.. أقسم إنّ المدينة غادرة والزّمانَ فاسدٌ والأمكنة َمتقيّحَة.. أقسِم إنّ الصّدقَ كذبٌ والكذبَ سيّدُ المَحافِل، أقسم إنّ القلبَ حجـرٌ والنـّجيعَ في المَدامِع، وهذا الوجهَ...
المدينة الجاحدةُ تربض غيرَ بعيد. وحدَها الكلابُ سيّدةُ المكان والزّمان. لا صوتَ يعلو على صوتِ قَنوعَ بنِ يَنوعَ، سليلِ القَنوعِ الأكبر. البشرُ هنا؟ آوَوا إلى أكواخهم مُبْكرِين، استكانوا إلى جدرانِ أمكنتِهم، وَفِي القلوبِ حسراتٌ على أفُق غيرِ مُبشِّر. وحدَنا في غرفة باردة لم يُنعش جسدَينا فيها...
وضع آخرَ لمساته على حذاء الزّبون، الذي يمدّ رِجله أمامه في ترفّع. "ها قد حصلتُ على ما أقتل به هذا الجوع اللعينَ، ولو إلى حين!".. قال في نفسه. رمى إليه الرّجل بالدرهم واختفى، دون حتى النظر إليه. تلقَّف الدرهمَ وقلبه بين يديه. أشرق وجهه الشّاحبُ بابتسامة خاطفة. وضع الدرهمَ داخل جيبه الوحيد غير...
تتوقـّف مُصْدرة أزيـزاً يُسمَع مـن بعيد. يصعـد راكبان ويحاولان افتكاك تذكرتيهما من بين الأجساد المُتزاحِمة عند مدخل الناقلة. مع الراكبَين ثالثٌ لا ينوي دفعَ ثمن التـّذكِرة ولا وجهة مُحدَّدة يقصدها؛ الحافلة وسيلتُه وغايته. بدون مُقدّمات، ينطلق صوتـُه (ببحّةٍ تشي بأن صاحبها خرّيج "مدرسة" أخرى في...
فجأةً، تنهمر قطرات الغيث على المدينة بعد طول ترقّب. تتجمّع السّيول وتتكون وديان صغيرة تجري في جنبات الطرق. يظهر ارتباك ملحوظ في حركة المارة. الناس يركضون في اتجاهات مختلفة ليَختبئوا من القطرات الكبيرة المشاغبة. تنظر إلى المتراكضين وابتسامةٌ ساخرة تعلو شفتيك. لماذا يهربون من قطرات الغيث ولا...
وقفت مريام ترتجف وهي تُراقب جحافلَ الإسرائيليين يُداهمون القرية المسكينة وينتهكون حُرمةَ أهلها، مُوزِّعين عليهم رصاصاتهم دون حساب. كانت مريام (يهودية مغربية حاربت إلى جانب الفلسطينيين) تقف وسط النساء، تُعايِنُ هذا الفصل المُروِّعَ لواحدة من أفظع المَجازر التي اقترفها الصّهاينة في حق هذا الشّعب...
كنتُ مهزوما بجولتين للا شيء وفي طريقي إلى خسرانٍ أكيد في الثالثة. عقلي مشوّش وأفكاري مشتتة منذ واقعة الصباح. يوم الخسارات تظهر علاماته منذ الساعات الأولى. وفألي السيء جاءتني تباشيره على الريق هذا الصّباح... لا أدري كيف رميتُ "الجّوكيرْ"، أنا الذي توعّدتُ خصمي بأن أسُدّ عليه به. هزمني في جولتين...
بَعدَ نظرةٍ خاطفة، حدّدَ من خلالها موقعَ الدكان، توقـفَ وأخرج عدسته. اقترب من بائع اللـّعَب الجائل، المُنكمش على نفسه صامتاً فوق كرسيه، واستأذنه في التقاط صور لمعروضاته الصّغيرة. ألقى نظرة على الدّكان، وهو يتحدّث إلى البائع، الذي اخترق بردُ يْنّايرْ جسدَه النّحيف فجعله يلوذ بكرسيه الصّغير جامعاً...
أعلى