سعيد الكفراوي - في حضرة الشرير.. قصة قصيرة

"وآخرتها؟".

وسمعتني أقولها وأنا أفزع من عز المنام، كأنها وخزة الوقت الداخلي التي تحدث فجأة، ملازمة لدقات الساعة المعلقة على الجدار يعلو رنينها في الجنبات، فتنهض.

انتبهت.

"ثمة أشياء تخصك تحدث من حولك، ولأنها شريرة بدرجة تثير الفزع تظن أنها من تدبير الشيطان".

نهضت وأنا أشعر بزمتة العصر المشبعة بالرطوبة الثقيلة، وعفار الجبل، أمسح عرقي بكفي وأنظر من نافذة حجرة النوم إلى حيث جسم "الهويس" الذي أشرف على إنشائه، رابضا كان وصامتا، وعائد حفره تلة من الرمال على الجانبين، والرجل لم تبدأ الدب على الأرض بعد في يوم العطلة هذا.

تأملت أثاث منزلي المؤقت. أقيم دائما في بيوت مؤقتة، مقامة بالقرب من تخوم الصحاري حيث تبدأ مشاريع الري من عند فم الترع، وتنتهي داخل الرمال البعيدة. مكتبي بجوار النافذة. كتب على الرف، وعلى الأرض. كراسي من جريد هنا وفي الشرفة التي تطل على الطريق الترابي المسوّر بالكافور. خريطة على الحائط لموقع المشروع، ورسم لجسم "الهويس" . عدد من القلل تبرد على السور، وشجرة رمان بحديقةٍ عجوز، غبراء، وخالية من الثمر.

"وآخرتها مع ابن المعتوهة هذا؟".

مسحت على جبهتي مقاوما دوار رأسي، وضغطت أسناني بغيظ من لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الشر، وتساءلت: ما الذي أستطيعه أنا المعتزل عند "هاويس" تحت الإنشاء حتى أدفع ما يحدث لي؟. كيف أقدر على معرفة دوافع الآخرين نحوي، أنا الذي أضنته مشاعره الطيبة نحوهم، هؤلاء الذين تطوى ضمائرهم على ضغائن توجه في كل الأحوال "ضدك"؟. بدأ الأمر من أوله كنكتة سخيفة.

من أسبوع كنت أخذت العربة من عند موقع "الهويس" متوجهًا للمدينة حيث المركز الرئيسي للشركة، كنت أجلس وراء مقود السيارة، أضغط على دواسة البنزين محاولاً التخلص من الانشغال الدائم في هذا المشروع الذي لن ينتهي. عندما وصلت الأسفلت اتجهتُ يساراً مضاعفًا السرعة.

وصلتُ منطقة السوق بالمدينة. كانت زحمة بالناس، وخضار أرض الجبل وفاكهته تملآن الشوادر، تقف سيارات النقل خلف بعضها في انتظار الدور، وأصوات المزايدين تختلط "بغبرة" الشارع، وصهيل الأفراس وصهد الضحى.

لمحته يقف وسط جمع من الناس، في ملابس رثة، كاكية، مبتور الرجل من عند الفخذ، يستند على عكاز، ويشبك في كتفه عدداً من فخاخ الصيد المسننة، المصنوعة من الصلب. كان يفتح فمه ويغلقه في حماس. بدا لي في حالة عصبية، ينسى نفسه فيرفع عكازه ويطوح به في الهواء، ثم يصلصل بفخاخ الصيد أعلى رءوس الجمع المحتشد حوله.

لما رآني اخترق الناس واتجه ناحيتي قافزاً على رجله الواحدة مطوحًا عكازه في الهواء. وقف أمام باب السيارة يحدجني طويلا بنظرة ثابتة. تأملت عينيه، لم تكونا عيني عاقل، بل عيني إنسان مختل، وعندما اقترب أكثر انبعثت منه رائحة كالرماد، ورائحة تبغ قديم زاعق. كان وجهه مليئا بالحفر، يشع صفرة مخضرة كالريم.

رأيته يرفع عكازه محاولا إدخاله من باب السيارة ليدفع به في صدري صائحا:

"طوّل بالك. إن ما كانت نهايتك على يدي".

صلصل بالفخاخ، ثم تكلم عن بنته ذات الجدائل الليل، والغناء السحري، والبحر الذي يطل من عينيها، والتي تتكلم بكل لسان، والتي ضاعت منه، واختفت في الجبل. أشار ناحيتي ووجه كلامه لجمع الناس المحتشد:

"هو هذا.. هوّ.. هذا".

اشتد صخبهم، وحاولت فتح الباب والنزول إليه، لكنه كان قد سحب عكازه ووضعه تحت إبطه وأخذ يعرج كالغراب حتى اختفى في زحمة السوق.

هبت الريح آتية من الجبل محملة بالرمال، وأحسست بالضيق، تنظر الناس ناحيتي باتهام صريح. لم أكن قادراً على فهم ما يحدث أمامي، وبدا لي الأمر غير مفهوم على نحو ما، وحتى أتخلص من حيرتي ركبت "الجيب" واتجهت ناحية الشركة. دخلت من بابها الخارجي. صعدت السلالم إلى القسم الهندسي ورأيت زملاء القسم يرفعون رءوسهم ناحيتي ثم يتأملونني لحظة، وينشغلون عني بتأمل أوراقهم. كانت تشيع بالمكان حالة غير طبيعية، وإحساس بالارتباك يشمل الجميع.

"صباح الخير".

جاء الرد مختلطاً، غير واضح، همهمات متقطعة على نحو سريع، وانشغال بالعمل عن النظر إليَّ. سحبتُ الكرسي وجلستُ بجوار السكرتير. قلت له:

"ما الذي يحدث هنا؟ ".

"لا شيء".

"مالكم؟ ".

تردد للحظة، وخبط بالقلم زجاج المكتب، ونظر ناحيتي من نظارته وقال:

"أصل الموضوع...!! ".

"أصل ماذا؟ ".

"الرجل ذي الرجل المقطوعة لما.

تأتي على غير انتظار اندفاعة الدم إلى شريان القلب فينتفض. تعيش حالة غير حقيقية على نحو مريب. قلت:

"ماله؟ ".

"جاء هنا، وعمل ضجة، ودخل للمدير".

"لمَ ".

"يقول كلامًا كثيرًا غامضًا، وغير مفهوم. يتكلم عنك وعن بنت له. ما الحكاية"؟

"أية حكاية؟.. أنا لم أرَ هذا الشخص أبدا، ماذا يعمل؟".

"إنه صياد..".

سكت لحظة، ونظر ناحيتي ثم قال:

"لماذا يترصدك هكذا؟، حتى لما خرج من عند المدير رأيناه وهو يربت عليه، وسمعناه يقول له عند الباب: اطمئن، الأمور سوف تعود لطبيعتها، وحقك ستأخذه".

انشغل عني السكرتير، وبدا لي ما يحدث الآن أكثر غموضا بدرجة تثير المخاوف، وأحسستُ أن ثمة أشخاصاً يحيكون لي في الخفاء ما يجعلني أكره حياتي.

فكرتُ في الرجل الأبتر الذي يتعكز على عكازه، ويحمل على كتفيه فخاخ الصيد، وحاولت هنا وأنا جالس، وبتركيز شديد أن أفتش عنه في ذاكرتي. ربما قابلته مصادفة، أو رأيته في الحلم إلا أنني لم أستطع أن أهتدي إلى ذلك.

نهضتُ من غير استئذان، وغادرتُ مقر الشركة.

اقتحمت "الجيب" الجبل الذي بدا مقفرًا ، وخاليا من الونس، وراحت الخضرة القليلة التي تشم وجه الأرض تقل، وتترى بحور الرمال، وهبات الهواء الفجائية تدور بالعشب الجاف. السيارة تتفادى المنحدر وتعطي ظهرها للفراغ العكر، وتأخذ طريق الترعة.

فيما بعد رأيته ينأى في ضباب الصبح غير مرئي بدرجة كافية، مسربلا بالشبورة، وعيدان البوص، يشير ناحيتي بعكازه ثم سرعان ما يختفي عن عيني.

حاولتُ التفاهم معه وسؤاله عما يريد، لكنه كان يسارع بالاختفاء بعد أن يكون قد استفز الناس بلا خجل، ناطقاً اسمي، متكلما عن بنته التي اختفت في الجبل، ذات الجدائل الليل، والصوت السحري، والبحر الذي يطل من عينيها، والتي تتكلم بمختلف الألسن.

منذ يومين كنتُ في موقع العمل، وجسم "الهويس" يندك في الجبل، تتوسطه بوابة من الحديد، أعلاها ترسان لفتحها، والعمال يصعدون من الحفر كالنمل، وديناصور هائل يدفس كفه في الرمل ملقيا به على الجبل.

كان يقف هناك، على القمة، بشاربه المهوّش، وبذلته الكاكية، تنبعث منه رائحة الرماد، وتطل من وجهه خضرة الريم، والابتسامة الغامضة. يركن كتفه على عكازه المدفوس في الرمل، وتطوح الريح برجل بنطلونه الخالية من اللحم والعظم.

قفزتُ أصعد الرمال مستعينا بيدي، محاولا اللحاق بالرجل الذي تطوح الريح بشعره الطويل الأشعث. رأيته ينسحب ويهبط خلف الكثبان، وأنا أقف على قمة الجبل أتأمل الفراغ حيث لا صريخ ابن يومين.

خيط من دخان، مأوى تحت تعريشة تسكنه قطط ضالة. شمس تخرج من جلباب الليل كل طلعة نهار. أنا أبدو كالتائه الذي تسقط في عروقه قطرات من ماء النار.

الرِّجْل المبتورة، والفخاخ المعلقة، وكل هؤلاء الذين أعرفهم، الذين أمتلك لهم محبة خاصة، قلت: "سرعان ما سيتعب صاحب هذه النكتة السخيفة".

"ما هذا الذي يحدث لي؟".

"في المكان البعيد عن العمار، بين المدينة المكتظة، والجبل المتوحد".

نهضتُ من فوق السرير تعبًا. كان الليل يوشك أن يجيء.

عملتُ لنفسي شاياً، وعصرتُ ملابسي المغسولة، وطلعتُ للشرفة أنشرها على حبل الغسيل. تطلعتُ فوجدته عند تعريشة الخشب بالقرب من ماكينة المياه. عندما رآني في الشرفة صلصل بالفخاخ، ثم سبني وسب آبائي اللصوص، ثم تحرك يظلع حتى اختفى في غيط التين.

حيرتني الفخاخ المعلقة في كتفه، وأدركتُ أنها مجهزة لجريمة، وعزمتُ أن أتوجه للشركة في الصباح لاستدعاء حارس.

وجدتُه قرب سور البيت وقد ركن عكازه وكأنه ينصب شيئًا حول السور. شعرت باشمئزاز وتيقنت أنه اقترب أكثر مما يجب، وأنه يحاول على نحو ما أن يصل لعمق داري.

صرخت: "انتظر عندك.. ما الذي تريده مني؟".

رفع رأسه ناحيتي ومضى، وسمعته يتحدث إلى نفسه "البقية في حياتك.. الليلة سينتهي كل شيء". واختفى في غيط التين.

لم أعرف كم مضى من الوقت وأنا أحدق في الليل؟.

ربما مرت ساعة، ساعتان، أربع. كل ما أعيه أنها جاءت أول الأمر مخنوقة، من بئر، ثم محشرجة تصعد من أحجار الطاحون، تستقيم، مدوية في ليل الجبل، غير عابئة بالنجم، وسلطان الظلام، وفوضى الرمل، وتلك العزلة غير المواتية، وضرب الهواء بصوت المستغيث.

صرخة تشبه العواء، متصلة وحادة، تجسد عالماً من الخوف، طالبةً العون في ليل الجبل.

خفتُ، ورأيتُ البئر بلا غور، والخوف بلا مدى، حلم يبدأ بالمطاردة وينتهي بالسقوط، ورجل خلف باب بيده بلطة، كامنا في الظلام، والأفعى مجنحة تستدفئ آمنة تحت فخذ رجل لا يكف عن الحكي والمسامرة. قلت: "تلك صرخة تحمل شيئا يخصني".

أدخلتُ قدمي في المداس ساحبا المصباح، هابطا السلم متجها ناحية الصرخة، كان ظلي يرتمي خلفي، ويتبعني، وكنتُ في قبضة المكان وكأنني في الحلم، في الكابوس.

قرب البوابة الخارجية، وعلى نور المصباح رأيت مبتور الرِّجْل وقد أمسك به فخ من فخاخه وقد انطبق على فقرات عنقه مبعثرًا إياه، فيما ينتفض بدنه الغارق في دمه، وقد مد كفه يستغيث بي في رجاء.

نظرتُ إليه، ولما تأكدتُ أن الفخ يأكله، صككتُ الباب خلفي ودخلت.


1992

تعليقات

أعلى