حسن هادي الطائي - نبي الضحك.. قصة قصيرة

لأول وآخر مرّة في حياته دخل البيت بهذه الغرابة الحادة والشكل المُخيف. غرابة تقطع كل حبال العلاقة المألوفة، وشكل يبتلع الأمان دفعةً واحدة. أصبحت ضحكته كسعفة نخلة يابسة، كنبي يتخلى عن رسالته. حتى عندما طُرد من وظيفته الأهلية قبل سنتين بسبب ضحكته المجلجلة وتحول إلى حمالٍ في علوة الخضار وسط المدينة لم يسمح لكل ديدان بؤس العيش والحياة الصعبة أن تنخر عظام ضحكته. خاصة عند دخوله للبيت. البيت الخالي من أشياء والمملوء بكل شيء. حيث ابنته الوحيدة ريم. زوجتهُ ماتت في المستشفى بعد ولادة ريم بنصف ساعة، ولم يتزوج بعدها. عند كل دخولٍ وخروج يُطلق بوجه ابنته ضحكات صاخبة وبشاشة مدهشة، هو يحتضنها وهي تُقبّلهُ. يلعب معها ويُراجع لها واجباتها المدرسية.

كان ينتظرها بباب المدرسة الثانوية ظهر كل يوم، كلما يلطمهُ لهيب أشعة الشمس ينتشي بشعور الأم ويضحك. يضحك وكأنه نبي الضحك الذي أرسلهُ الله لغرس أشجار الضحك في عيون هذه المدينة الباكية. فهذه مهمة نبي الضحك في مدينة تفقس تحت جفون ليلها بيوض الدموع، وفي أزقة نهارها تُفرخ الكآبة وتركض منذ ألوهية إنليل في نفّر وحتى الآن. رسالته تتلخص في أن يُخرج المسجونين من عالم البؤس بدغدغات الضحك لا أن يثرثر عليهم بفوائده ويسجنهم بوهم آخر.

ما إن تخرج بنات المنطقة الجميلات من المدرسة حتى يمد بصره وتسلبهُ رائحتها من بين الزحام. بنات المدرسة يحسدنّ ريم لجمال صداقتها مع أبيها وحبه لها، يحسدنّها لأنها بنت نبي الضحك الذي ذاعت نبوّته في هذه المدينة، وبنفس الوقت يتوجّعن عليها لأنها يتيمة الأم. ورغم عادات المدينة التي لا تسمح ببعض التصرفات في الشارع، كان والد ريم لا يكترث لكلام الأهالي والناس وهو يركض نحو بنته ويحتضنها كل يومٍ بدهشة مختلفة لا مجرد طقس اعتاد عليه. يُفلت الحقيبة من متنها ويحملها بين ذراعيه ويرفعها، حتى أن ريم سألته ذات مرّة عن سبب حمله الحقيبة بهذه الطريقة! ضحك وردّ عليها: هكذا هم أنبياء الضحك يا حبيبتي، يحملون حقائب بناتهم وكأنهم يحملون كأس العالم لأول مرة.

يتناولون الآيس كريم من عربة أبي جابر الذي يصنعها بنفسه مع قطعة بسكويت مُقبّبة، يُسميها الناس هنا “موطا أم الكبوس”.

إلا هذه المرّة؛ خرجت ريم من المدرسة ولم تره ينتظرها كما في كل يوم، انتظرت لعله قادم في الطريق. مرّ الوقت، وبعد نصف ساعة من الوقوف تأكدت أن هنالك شيئًا ما.

كان هو قد دخل البيت مُتعبًا لدرجة السقوط من قمم نفسه الضاحكة حتى قيعان اللامبالاة. بعد نصف ساعة من رجوعه إلى المنزل، دخلتْ مُدلّلتهُ ريم عائدة من المدرسة. رأتْهُ جالسًا بجوار مكتبتِه الصغيرة ينفث الدخان. لم يقفز من مكانِه كما في كل مرّة حين يراها بالرغم من سماعِه لصوت فتح الباب الذي غلقته بعنف تعبيرًا عن غضبها. اختبأتْ خلف باب المطبخ، تنتظر أن يقوم من مكانه ويبحث عنها ليحتضنها ويشرح لها أسباب عدم انتظاره لها عند باب المدرسة. ظلّت واقفة وتنظر إليه من بعيد. أشعل سيجارته الثانية قبل اكتمال الأولى، لم تشاهد هذا المنظر الغريب والبارد طوال حياتها معه؛ فهو كان يُخفي عنها كل شَيْءٍ من هذا القبيل، وهي لا تعلم بطرده من الوظيفة ولا بما يعمل ولا بالخبر المأساوي الذي نفذ إلى أعماق ضحكته اليوم وهشمّ صلابتها.

اقتربتْ مِنْهُ. رتبت على كتفِه الأيمن بكفُها الأيسر. أغمضتْ عينيه براحة كفِها الأيمن وهي تقف خلفه وتمازحه. قالت له:

– “هلو بابا حبيبي”.

رد عليها ببرودٍ قاتل:

– “هلو”.

هكذا حتى بدون كلمة بابا. ردت عليه قائلة:

– منذ متى لا تقفز لاحتضاني؟

ظل صامتًا. لم يرد عليها بأي كلمة. جلستْ أمامه. ألقى عليها نظرة سريعة ورجع يُدخّن سيجارته. سألته عن سبب ما هو عليه. كانت لا تجيد حتى صياغة سؤال عن هكذا أحداث؛ منذ ولادتها وهي لا ترى فيه سوى الحضن، والضحك الذي يُفرّش به أسنان أحلامها حتى لا تتسوس من مضغ مواجع الواقع. لم تبادر يومًا الى مثل هذه الاسئلة. كانت هي من تُسأل عن حالها ومزاجها لا أن تسأل هي.

مسكتْ كفه، راحت تمرر أصابعها على باطن كفه المُتعبة وتدغدغها، تفرك أصابعه الخشنة بأصابعها الليّنة. سألته بكلمات مبعثرة ومرتبكة عن سبب خشونة كفه وعن ذبول وجهِه، تسألهُ بعفوية مُشتتة، كما يسأل الأطفال آبَاءهُم عن ألغاز حكايات أستريد ليندغرين في قصصها ورواياتها العجيبة. لم يرد عليها. وهذه كانت صدمة كبيرة عليها. حاول أن يرد عليها بشيء، لكن الغمغمة التي كانت تخرج من حنجرتِه ببطء لا تُفهم.

وقفتْ وانتزعت حقيبتها من على كتفيها، نزعتْ جواربها عند زاوية المدخل. وبينما كانت تبكي بصمت في الحمام، هرعتْ إلى حقيبتها مجددًا، أخرجت منها كيسًا شفافًا وضعت بداخله “موطا أم الكبوس″، فتحت الكيس وقدمتها له، وقالت:

– أعرف أنك تحب الموطا التي يصنعها أبو جابر. حتى هو كان ينتظرك لتشتري لي من عربته. سألني عنك ولم أرد عليه.

قدم لي الموطا ولم آكلها، طلبت منه أن يضعها بكيسٍ لنأكلها معًا. خذها من يدي وتلذذ بها يا نبي الضحك قبل أن تفقد برودتها.

كاد ينفجر لحظتها، كانت يده لا تساعده ليأخذ منها الآيس كريم، فقط أخرج لسانه ولعق منها شيئًا. ثم أخرج سيجارة أخرى وراح يدخنها بشراهة. هنا أصبحتْ الصدمة أبشع عليها. ولا غرابة من أن تموت ريم إثر هذه الصدمة؛ فهي مدلّلة النبي ولا تحتمل كل هذا الصدمات دُفعةً واحدة. خاصة أنهُ كان يعرف بضعفها منذ أن أخبرهُ الطبيب قبل سنين عن مرضها النفسي، حيث إن أية صدمة مفاجئة قد تودي بحياتها، لذلك إدراكًا منه لحساسية مرضها كان لطيفًا معها في كل شيء.

– بابا أرجوك رد عليّ؟ بأي كلمة أو أي شيء؟ مريض؟ عندك مشكلة في الدائرة؟ ارحم نفسك وارحمني أرجوك. هكذا سألتْ نبي الضحك بلكْنة طفولية حزينة، لكْنةٌ كغضروفٍ تستهلكه عظام اللغة البريئة.

ربت على كتفها وقال:

– أنا سأرتاح.. لا تقلقي بشأني.. سأرتاح.

لم تسمع ما قاله بقدر ما غرقت بحنان كفه التي ربت بها على كتفها. هذه الطرقة اللحظية جعلتها تستعيد نشاط وجودها.

بينما هو كان يتدحرج نحو حفرة العدم، حيث لا تطول إقامته في هذا الوجود غير ساعاتٍ قصيرة وخاطفة كما أخبرهُ الطبيب.

الوقت بالنسبة له قرقعة احتضار، حيث الفرصة الوحيدة التي تعزل الإنسان عن كل شَيْءٍ مألوف، لدرجة لم يعد يتعرف على أحد رغم محاولاته بالبحث عن ملامحٍ معروفة، إلا أنه لا يجد أي أثر منها! حتى هو نفسه نبي الضحك لم يفهم معنى هذا التحول العجيب الذي طرأ عليه! لا يفهم معنى رفيف أجنحة الطائر الذي دخل إليه من نافذة وعيه. لا زال نبي الضحك يضحك، لكنه يضحك من الداخل فقط، حيث التوق من عمق انحطاط الإنسان إلى الأبدية، الأبدية التي لا تُبلغ إلا بالموت. كان يحلم ويحن لهذه اللحظات التي تتيح له النظر إلى أعماقه الدفينة ليواجه الوجود وجهًا لوجه عند النهاية وبلا وسائط. لكنه كان يتعثر بضفيرة أحلام طفلته، إنه يخشى على هذه العقبة من أقدام الزمن، من دهسة القدر الذي لا يرحم، لدرجة يتحول توقه العجيب أحيانًا إلى اقتلاع الطريق وإزاحته عن هذه العقبة!

وبينما ريم تُدلّك بيده وتدغدغها، قالت له:

– هل تعلم ما حصل مع زميلتي شفق؟

لم يرد عليها، لكنه كان يبتسم حرصًا منهُ لتقول كل ما يحلو لها.

– لم تأت للمدرسة منذ أيام، واليوم أخبرنا مدرس الرياضيات أن والدها مات بحادث سير على طريق النجف.

لم يرد عليها، لكنه كان يبتسم ويحرّك برأسه وكأنه يسمعها.

– يا لبشاعة الموت، ألم يرق قلب عزرائيل لجمال ورهافة قلب صديقتي شفق ويترك لها اباها إلى الأبد، أو حتى تكبر وتصير عجوزًا على الأقل؟

لم يرد عليها، كان يعتصر آخر ضحكة في أعماقه، لتخرج رطوبة البشاشة على وجهه، كان حريصًا على أن تلعق ريم آخر ما تبقى من ضحكته.

– كيف نقف معها ونساعدها على هذه المِحنة يا أبي؟

بينما كان وحش السرطان يسحل بقلبِه نحو حفرة العدم. التفت إليها وقال:

– أنا بخير وسأرتاح إلى الأبد يا حبيبتي… لا تقلقي عليّ.

– أعرف يا أبي لكن أنا سألتك كيف نساعد صديقتي شفق ولم تجبني؟ ابتسم بوجهها… كانت ابتسامة يابسة ولكن يلمع منها خضار وجه الموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى