أمل الكردفاني - حرمــــــــــان.. قصة‏ قصيرة

وارتمى المفكر العظيم في لجة اليأس ، هكذا لم يجد سوى أن يسدد لكمات واهنة لشاب قليل ‏الأدب. تحرشت به المرأة ، كانت تنظر إليه بسخرية ، ملابسه وهيئته بصفة عامة أثارت ‏سخريتها ، ثم جرت كم صديقها الشاب وهمست بصوت جعلته مسموعاً ، (مجنون.. من أين ‏تأتنا هذه الأشكال؟).. الشاب تجنب اللكمة بسهولة وبدأ في تسديد لكمات أسقطت مفكرنا ‏العظيم على الأرض فتلقى ركلات أخرى في الوجه والبطن ، وكانت المرأة تنظر لجثته بعينين ‏لامعتين شريرتين. وكان هو يصرخ‎:‎‏(حقيرة.. حقيرة..).. ثم سمع الشاب والمرأة صوت سيارة ‏البوليس فغادرا بسرعة.‏
وحين مسح صديقه الحلاق عينيه من الدماء ، قال: (لا بأس.. إن العظماء يجب أن ينالوا من ‏الغوغاء الأذى قبل أن يكتشفهم العالم).. فكتم الحلاق ضحكته بصعوبة ، ثم انفجر أخيراً ، ‏فدفعه هو وغادر والدماء تغطي قميصه.‏
الشرطيان استوقفاه عندما شاهدا ملابسه ، فأخرج بطاقته لهما وهو مذعور ، فرغم جنونه لكن ‏خوفه من الشرطة لم يفارقه منذ طفولته. لم يقتنعا بروايته ودفعا برأسه إلى داخل السيارة ، ثم ‏أشغل الشرطي الشاب أغنية سريعة ، قال حينها: آخر أغنية لتو باك شاكور قبل أن يتم قتله..‏
قال الشرطي الآخر: هل قتلوه؟ قال الشرطي الأول: اللعنة .. هل حقاً لا تعرف؟ فصمت ‏الآخر ، واندفعت سيارة الشرطة بالشرطيين الصغيرين ، ثم عبرت قرب السيارة سيارة شباب ‏آخرين ، صرخوا فلاحقهم الشرطيان ، وحدثت مطاردة انتهت بتوقف سيارة الشباب وبدأوا في ‏التحرش بالشرطيين الذين طلبا الدعم ففر الشباب.‏
بات في الزنزانة الضيقة ولم يستطع النوم مع باقي النزلاء ، لأن رائحتهم لم تكن تطاق وكان ‏خائفاً منهم. ولذلك ما أن دلف لغرفته في الصباح حتى ارتمى على سريره ورأى نفسه داخل ‏خلاط كبير ، وشعر بوسطى الشاب ينغرس في فتحة شرجه ويحفر فيها ، كان متضايقاً ولا ‏يعرف كيف يتخلص من الألم ، وبآخر قوة صاح ، واستيقظ من النوم.‏
غرفته متعفنة تماماً ، أعقاب السجائر بقايا طعام لها أسابيع أو أشهر ، ملابس متسخة ، ‏زجاجات مياه ، أحذية ، أكياس ، حقائب ، أتربة ، ...الخ. (هكذا هي حياة العظماء) .. قال ، ‏ثم استحمى وارتدى ملابسه وخرج. كان العصر قد نشر برودة خفيفة في الهواء ، والشوارع شبه ‏خالية. (ستتعرض للإهانة من الغوغاء كثيراً ، عليك أن تتحلى بالصبر لا تسمح لهم ‏باستفزازك)..‏
ثم تلقى بريداً من موظفة البريد السريع ، ففض الظرف وأخرج أوراقاً وقرصاً مدمجاً..‏
‏(أخي العزيز).. شاهد شقيقه يتحدث: (أخي العزيز ..نحن مشتاقون لك .. وأمك مريضة .. ألا ‏تستطيع العودة..عد إلى وطنك .. نحن نحتاج لك بشدة).. ‏
‏- لماذا أنت عظيم جداً؟
سألته الطبيبة النفسية التي أحالته لها مؤسسته فأجاب:‏
‏- أنا لا أعرف.. هناك شيء ما .. شيء ما يجعلني أشعر بأنني عظيم .. بل عظيم جداً..‏
كانت تنظر له كما لو كان حيواناً مفترساً ، فأحس بأنه يتعرض لتحقيق من كائنة قزمة لن ‏تعي يوماً مع من كانت تتحدث.‏
كان ضخم طويلاً بأطراف ضخمة ، لكنه لم يكن قوياً ، ولم يكن يأبه... صديقه الحلاق قال ‏هامساً: سأجد لك علاجاً.‏
في الساعة الحادية عشر مساء أغلق صديقه المحل ، ومعهما فتاة من طبقة فقيرة جداً ، كانت ‏نحيلة الساقين.‏
قال الحلاق: سأخرج وأقفل المحل وأنتما في الداخل .. اتصلا بي حين تنتهيان..‏
وحين جر الحلاق باب المحل إلى أسفل وانساب صوته كشلال انخلع قلب المفكر العظيم حين ‏وجد نفسه لأول مرة أمام أنثى وجهاً لوجه..‏
غمغم: أنا مفكر عظيم..‏
همست ساخرة: سنكتشف ذلك...‏
قال الحلاق وهو يودعه أمام بوابة المطار: عد لأهلك بما تبقى لك من عقل يا صديقي .. الفتاة ‏أعادت لك قليلاً من صوابك..‏
قال: أنا فزع.. خائف ..سأعود خالي الوفاض.. صحيح لست عظيماً كما كنت أظن لكنني ‏على الأقل.. على الأقل ..‏
قال الحلاق: لقد طردوك من العمل .. وعليك أن تعود لوطنك..‏
انحنت المضيفة ووضعت أمامه الطعام ورأى الشق الذي يقسم بين نهديها.. فارتعش جفناه ‏‏..رفع رأسه ووجد الفتاة ترسم ابتسامة متكلفة على شفتيها.. إنها تسخر منه .. وبسرعة حمل ‏المعلقة البلاستيكية وغرس طرفها الحاد في عين المضيفة التي أمسكت بعينها وصرخت ‏والدماء تنفجر منها. ‏
‏(أنا عظيم أيها الكلاب .. عظيم ..)‏
قال كابتن الطائرة: (نتعرض لاختطاف.. نتعرض لاختطاف..حوِّل.. نتعرض لاختطاف.. هل ‏تسمعني؟)..‏
وجه شقيقه كان مغموراً في الدموع ، وهو يشاهده مقيداً من قبل رجال الشرطة.. كان يصيح: ‏‏(لا تبكي يا أخي.. لا تبكي.. إن العظماء دائماً معرضون للاضطهاد .. لا تخبر امي بشيء ‏حتى أعود...‏
صاح ضابط الشرطة: (إنه عنيف جداً..قيدوا حركته بقوة)..‏
صعقوه ، لكنه كان في تلك اللحظة أقوى من اي وقت مضى.. دفع الشرطيين فسقطا بعيدا ، ‏وانقض على الشرطي الذي حاول الوقوف في طريقه ، فنطحه برأسه وسقط الشرطي متألماً وهو ‏يمسك قلبه.‏
ضج المطار بالصراخ حين حمل مسدسَ الشرطي ، وأخذ يصرخ ، أطلق رصاصتين في الهواء ‏وهو يحاول الفرار..‏
وما أن أطل رأسه خارج بواب الوصول حتى انفجر إثر رصاصة واحدة استقرت داخل ‏جمجمته..‏
تم تشريح جثته تشريحاً روتينياً ثم قام مدير المشرحة ببيع جثته لطلبة الطب.‏
كانت جثته ممدة والطلبة من حوله ، وكان الطبيب يشرح لهم أشياء كثيرة قائلاً:‏
‏- كان لهذا الرجل آلة ضخمة جداً كما ترون.. أرجو أن تتوقفوا عن الضحك وأن تلتفتوا ‏للدرس...‏
غير أن الطالبات تحديداً لم يتمالكن أنفسهن من الضحك ، فقام الطبيب بقطع ذكره وهو يقول:‏
‏- ها.. الآن التفتن للدرس..‏
قالت إحداهن ساخرة:‏
‏- لا ترمه يا دكتور..‏
فانفجرت باقي الفتيات ضاحكات..‏
كان يرى الطلبة يتحلقون حوله ومعهم الشاب وصديقته الشريرة والشرطيين الشابين والحلاق ‏والطبيبة النفسية والعاهرة والمضيفة.. كانوا كلهم حوله يضحكون ساخرين...وكان يحاول ‏الصراخ .. (أين شقيقي..أين أمي..؟؟).. لكنه كان عاجزاً عن ذلك ، .. عاجزاً تماماً.‏
‏(تمت)‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى