منى محمد صالح - إرتطام!.. قصّة قصيرة

تدخلين غرفتكِ في المساءِ العارى، تنفضين عنها تراكم العتمة، وبداخلكِ خراب يُلامس القلب، يتأطره وسط ظلمة حالكة لا يُسمع فيها سوى مطر يتساقط على خشب النافذة الوحيدة في الغرفةِ. وضلفتي الشباك المفتوح على مصرعيه تتأرجحان مع الهواء البارد، يصدران صوتاً بائساً يتساقط بصريرِِ مكتوم.
ينحدر الوقت معكِ إلى متاهتكِ البعيدة فيشعركِ بوحدتكِ الباردة، لا تعرفين كم يبدو كل شيء مُنهكاََ إلي هذا الحد وأنتِ تدورين حول نفسكِ بعينينِ متعبتينِ، في وسط الغرفة، تتراءى لكِ مُدنٌ تشبه حقول الريحان، نداءٌ يحتويه محض الخاطر، من إبتداء الرمق، إلي سفورِِ يأخذ النصف الآخر منه،
صوت خفيض ينسحب بتلذّذِِ حارق، يتصاعد شواهقاً من التعب، ذاكرة تنز بتؤدة، فتتضح المفردات بدلالتها وكل الأشياءُ أمامكِ لم تعد تفرق!

كنتُ أعرفُ بالغ التعب وانتِ تقولين لنفسكِ:
أنّ هذا الألم الذى أحمله لن يُغادر أبداً. وكل شيء من حولي يستعذب تداعى اللحظاتِ المُوجع، تلتحفكِ لعنة الوقت ببطءِ، تسوقكِ نحو فراغ سحيق. لا يهم كثيراً إلي أين يجرّكِ، فقط ، تقفي عارية تتأملي متاهتكِ تتّسع أمامك في دورانِ رمادي يتشرنق بحباله الكثيفة.
تتشظى فيكِ تعاريج القلب المنهكة، وفي لحظةِِ كأنها برق، يتهاوى معها كل شيء.. كل شيء، وأنتِ وحدكِ هُناك، حيث لا رفقة سواكِ في تلك العشيّة البائسة، كأنكِ كنت تلهثين منذ أن وُلدتِ!. يجتاحكِ ثقل الوقت كثيفاً وقد دلف معكِ، و ركن في زاوية الغرفة الخالية من كل شيء.

كان الوقت مثلي كائن يجرجر ظلال خيباته بتثاقلِ بطيء، وقرص الشمس الآيل للإنحدار يوحي بالإختفاءِ دون أن يتبقى من بقاياهُ ما يذكر. والساعة تتجاوز السادسة والربع بقليل، وحرارة الجو الخانق تتكاثف برائحة ثقيلة تنبعث من فراغ الغرفة العائم في ضوءِِ شحيح، وأنا المارقة من تحت جلدي متكوّمة في مكاني، يتمدد الجسد الملبوك بالتعب، أبحلقُ في وجوم من حولي وكأن كل ما مضى بقى هناك في مكانه ولم يعد كما كان من قبل!.
هاجس لعين يطاردني وأنا أخبو قليلاً .. قليلاً، أحملُ قلبي معي، حيث أجدني هُناك، بقربك، تسكن حناياي منذ تينك الولادة:
- أيها التعس، كم أحبُّكَ، ما زلتُ أحمل معي أحاديثنا، دفء الحكايات الصغيرة، التي تجعلني أحبس دمع دهشتي وأنا أراك بقلبي كما أفعلُ الان!

من يعبأ بثقلِ هذا القلب، وقد إتسع ثقبه الراعف في مكانِ ما، وبلغ أوج ذعره، فاغر الجرح ومنسيّاً، يبحلق من خلال تشقّقاته نحو روح أراقبها تنسلخ بعيداً عني، تتوارى، تعلن عن تصدّعِها بدنوِ اللحظة، ويفر السؤال من السؤال، يلمُّ ركامه مترنّحاً في محاولةِِ أخيرة للحاق بسرب العصافير المار دونما جدوى:
- ماذا لو...؟!!

كأنه صوتي ينسرب حنوناً، وكلما لامستُ روحكَ يتنهد الصعداء قلبي، مثل إنبثاق السنبله، غيم لطيف يهمى مرتعشاً، وقد أومأتُ لكَ في واحدةِِ من زوايا الحنين، هُناك حيث إرتخاء الجسد المنهك يتمادى معي، أُناديه، يوغل في دفئه، تتجاسر عبثاً تلك الروح، بعينيها الممتلئتين بحبات الدمع بعيداً عني، خشية أن تنفرط في البكاءِ:

إنني أبلُغُ مِن العُمرِ حُبَكَ،
كعهدي بي / بك.. بروحينا
مازلتُ أناديكَ طفل قلبي..
وأخبئ سراً، قمر الحكايات!
كيف لي أن أعانق دفئك؟
وأنت الان هُنا
ملء الروح تسكنني!
لا شيءٌ..
لا شيءٌ
هُنا تماماً
غير هذا القلب،
الـ يحتويك منذ ولادتي،
وللأبد..
آه‍ِ ..
وحين تناديني (....)
و..سكَتتْ، والقلب يركض نحوها، وكل منهما ينبت في الآخر، ينعصف الداخل المهدود بيننا راساً على عقبِ، وأنا أبحثُ عنها لأجدني، أنادي إسمها (.....)
ناصية الخطو المثقلة بالوخزِ تتقارب أكثر وأكثر...
صرختُ وحدي:
- آه‍ِِ... ليتها لم تسكتْ!

إلتصاقٌ حميم بالتعبِ يحملني إليها منذ أن بعثرني غيابها الحزين، وذاك السؤال المضنى الذي لبث هناك، لم يُبارح مكانه أبداً، مثل جراح فاغرة لا بُرْءَ منها!.
وقبل أن تمضى، أدارتْ رأسها نحوي في إنكفاءةِ أخيرة، وقالت لي في صوتِ يغلب عليه الشرود، ويشوبه الكثير الكثير من الأسى. كان بوحها شجيّاً:
كيف يمكن أن تعبث الأقدار بنا، بروحينا،
أن تمضيَ ولا تعود،
أن يتناثر أحدنا بالآخرِ دون لقاء،
أوعناق يلَمَّ شَعَثَ الروح وأوجاعها المثقوبة؟!

ويلثم الليل قلبي إذ يتمادى نصل السؤال من جديد، حاداََ:
- ماذا لو..؟!
تبّاً له من عُرى سافر، وهذا التداعي الـ يتناسل مُوجعاً، بالكاد يحملني، حيث كنتَ أنتَ هُناك وحدكَ تطوف، حول قلبي، منذ زمنِِ بعيد.. بعيد، تندسّ تحت نبضه، تحتويه، تحرسه من العطب، وكُلَّ الطُرقِ تؤدي إليكَ، تستنطق ما بالروحِ من تعبِ، ولا تصل!
لا أدري كيف تكوّمتُ على بعضى المنهك في حنوِِِّ غامر، أنظر من بعيد. حالة خاصة من التمادى المريح، وقد سيطر عليّ هذا الشعور الكثيف المُرُّ.
نداءٌ يتكالب من فِجّةِ واحدة، يلتقط بعضه البعض، يتهاوى من عُلوّهِ الشاهق مثل قطع زجاج، يتشظى إلي قطع صغيرة.
يتوزّع نصل الجحيم للمرة الأخيرة، يرتفع بعبثيته السافرة حيث لا نديمٌ آخر سواه في تلك الغرفة المعتمة:
- ماذا لو..!
يتمدد الشرخ طازجاً من جديد، في مسامات الجسد، يقاسمه تلاحق الأنفاس الوجلة، إحتواء طعم الملح الحارق المندلق في الروح، ومنذ ذلك الإرتطام، لم ينجْ أحداً مِنّا، سِوى ذاكرة مازالت ممدوة بحبلِِ من الأغنيات!
منى محمّد صالح
برمنجهام 29 يناير 2018م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى