محمد مزيد - أهوار الحب.. قصة قصيرة

شاهدنا ، أنا وهي ، لوحات تشكيلية مضمونها " الأهوار " في قاعة حوارالفنية الواقعة بالقرب من كلية الفنون وسط بغداد ، جلسنا في زاوية منعزلة من كافتيريا قاسم سبتي التابعة للقاعة ، شربنا الشاي ، دخنا السجائر . كانت شاردة الذهن يسبح خيالها في تلك العوالم الخفية من جنوب البلاد . بقيت هادئة ، تطلق تعليقات باردة تقاطعني بها وأنا أمطر عليها بوابل من المعلومات حول عظمة الأهوار كونها سلة سمك كبرى لكل أهل العراق ومهد السومريين ، فقالت ببرود " متى ستأخذني الى هناك " .في تلك الأثناء دخل صديقنا الشاعر الصعلوك طويل القامة الذي يحب الجميع ملاطفاته ، نظر إلينا مبتسما ، ثم أطلق نكته سمعها الجميع " ما تتزوجون والله طلعتوا ارواحنا " ، ضجت الكافتيريا بالضحك . كان جميع روادها من الأصدقاء المعارف بين رسام وشاعر وصحفي وأديب ، ثم همس باذني " إذا ما تتزوجها سأتزوجها بدلا عنك " وعاد جمهور الكافتيريا بالضحك أيضا ، فألتفت إليهم " حتى هاي سمعتوها ".
أستجبت بعد أيام الى رغبتها في السفر الى سوق شيوخ ، بقصد الذهاب الى الأهوار برفقة أحد أبناء عمومتي. صعدنا الباص الذي أقلنا الى الناصرية ، جلست هي بجانب النافذة ، ترتدي البنطلون الجنيز وقميص سمائي أحبه ، ووضعت عباءة أستعارتها من أمها في حقيبة ملابسنا المشتركة ، فقالت ساخرة " هل كان من الضروري جلب العباءة " .. لم ألتفت الى عبارتها ، انشغلت بالجنديين الجالسين خلفنا ، فقد كانا يتحدثان عنا بطريقة منفرة ، وبحدسها الذي لايخطئ في معرفة دواخلي همست " اتركهما لخاطري .. " .. تحرك الباص ، وبعد قليل نامت على كتفي وأحتضنت ذراعي اليمني ، حتى وصلنا الى ناحية " الحي " لتناول وجبة الغداء .. كم أحبها وهي على طبيعتها بكفشة شعرها .. هرعت الى المغاسل بسرعة ووقفتُ بانتظارها ، ثم خرجت .. ولما أنتهت وجبة الغداء، قلت لها " من الآن وصاعدا يجب عليك أرتداء العباءة " ضحكت تلك الضحكة التي أحبها بجنون " ماشي .. وكلامك على راشي " ثم ضحكنا ، ونسينا الجنديين خلفنا .
هذه المرة أنا الذي نام على كتفها ، بعد قليل من إنطلاق الحافلة ، كانت تداعب شعري باصابعها الحانية ، ولما وصلنا الى الناصرية ، صار الوقت ما بعد الثانية ظهرا .ثم صعدنا حافلة صغيرة أقلتنا الى سوق الشيوخ .
أستقبلني أحمد أحد أبناء عمومتي ، وهمس بطريقته الناقدة المحببة ،" مرتك هاي ما تعرف تلبس العباية " ، نظرت إليها ، فغمزتني ، كانت قد سمعت ما قاله ، فحاولت أن تضع العباءة بالشكل الذي لا يظهر شعرها ، ولكن من دون فائدة .
في اليوم التالي ، بعد أن بتنا في بيت أحمد ، نامت هي في غرفة الفتيات وأنا في غرفة المضيف، وقد ترك أحمد زوجته ونام بالقرب مني .. فقال لي " راح تبقى مخبل .. يوميا طالع علينا بسالفة .. منين جبت هاي المرأة " بقينا نضحك ونثرثر الى الصباح .
وبعد تناول الفطور ، أخذنا أحمد الى أهوار الجبايش ، صعدنا المشحوف ، وهناك ألقت عباءتها وأخذت تتلفت الى جميع الجهات ، مرة تصور ، ومرة تكتب ، ومرة تضحك ، ومرة تمازح البلام .. تصببت عرقا بسبب خجلي من تصرفاتها الطفولية وعفويتها المقلقة .. ثم تناولنا غداءنا السمك واكلنا الرطب .
ولما أنهينا الجولة ، عدنا أثناء سقوط قرص الشمس خلف القصب والبردي .. وفي اليوم التالي ودعنا أحمد ورجعنا الى بغداد ، في الطريق قلت لها " ها هسه ارتاحيتي ؟ " ألتفت الي بعد أن افلتت ذراعي اليمنى ، قالت " تعرف لماذا كنت مصرة على المجئ الى هنا ؟ " بقيت صامتا وأنا انظر الى خصلة متدلية على عينها اليمنى ، فيما أخذت الحافلة تبتعد عن الناصرية ، أكملت " ذلك لانهم سيجرفوها ولن يبقوا عليها باقية " .. بعد مدة صمت ، قالت بحزن .. لن يبقوا على الأهوار ، هكذا قرأت في الأخبار" .. وفعلا هذا ما حصل ، جفت الأهوار ، وبعد سنوات ، أفترقنا - أنا وهي - بالرغم من أن حبنا لم تجف أهواره لحد الان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى