محمد مزيد - فرصة عمل.. قصة قصيرة

صدّقتُ جاري العراقي الساكن في العمارة نفسها التي أسكنها ، بأنني يمكن أن أجد عملاً في هذه المدينة الأجنبية التي يشحُ فيها العمل للإجانب . ذهبتُ معه الى المكان الذي يعتقد إنه سيوفر لي هذه الفرصة الذهبية . بعد أن قُلّص الراتب التقاعدي ، وصار أمر بقائي خارج العراق على كفّ عفريت لاسيما وأن الحياة أصبحت غالية والإيجارات مرتفعة والفواتير باهظة.
في الطريق وأنا أسير معه بإتجاه مكان العمل ، سألته عن طبيعته ، هل هو شاق كأعمال الحمالة ، أو في البناء أو في الحدادة أو النجارة ، أو غسل الأطباق في المطاعم . فقال كلا ، طبيعة العمل تتلاءم مع كبر سنك ومكانتك . لإول مرة أفرح كالأطفال بحيث يقيمني رجل مستطرق لايعرف عني إي شيء . يبدو أن الجالية العراقية لاينطبق عليها شئ أسمه الأسرار ، الكل مفضوحون من قبل الكل . سألته وماذا تعرف عن طبيعة مكانتي ؟ بدأ كالعارف الخبير يعدد لي مناقبي ، الصحف التي عملتُ بها ، الكتب التي أصدرتها، المهرجانات التي شاركتُ بها ، حتى المقابلات الصحفية أو التلفازية ، فقد مر عليها بتفصيل أدهشني . ولم يبق أمامه سوى أن يقول لي أسماء النساء اللواتي أحببتهن . بعد نصف ساعة من المشي ، وصلنا الى المكان المقصود . كان عبارة عن محل كبير للدلالية ، لمحتُ على السريع عبارات كُتِبت بخط الحاسبة على زجاجِ المكتب الخارجي : لدينا شقة مفروشة بسعر مناسب ، لدينا شقق تدفئة مركزية ، لدينا شقق بصوبة فحم . لدينا مترجم . لدينا سيارات للأجرة لمراجعة المستشفيات . لدينا كاتب عرائض.
جلستُ على أريكةٍ فارهةٍ في المكتب بعد أن رحبّ بي شخص عمره أقل من عمري بعشرين سنة ، يبدو عليه الإسترخاء والراحة والسرور . وفي زاويةٍ من المحل يجلس خلف منضدة وضع فوقها حاسوب ، شخصُ آخر مثل عمره لم يرفع رأسه إليّ ، فأنزعجتُ منه ، ولكنني بسبب كوني خضت حروبا شتى وحصارات دامية ، ولإنني أعرف مستويات الناس الوضيعة أو الأصيلة من خلال نظرة واحدة ، فقد وضعته في الإطار الذي يجعلني الا أنزعج منه . قلتُ في نفسي هذا تافه مثل بقية التافهين الذين مروا على حياتي مرور الكرام.
ترحيب صاحب المكتب بي جعلني أشعرُ ببعض الأريحية وأنا متشوق لمعرفة طبيعة العمل . وقبل أن يتفوه رب المكتب ليشرح طبيعة العمل ، خرجت فتاة من خلف ستارة كانت موضوعة وراء مكتب هذا التافه الذي لم يرفع رأسه الي . كانت فتاة جميلة جدا ، ملابسها ضيقة ، بياضها يشعُ مثل الثلج ، شعرها الأسود يسترسل على مؤخرتها ، صدرها نافر لم ترتد عليه السوتيان . جعلتني رؤية هذه الفتاة أتحمس الى العمل ، وتشوقت أن تجلس الفتاة بجانبي كي أستعيد من شحنة الجمال في جسدها لازّود بها نفسي بعد الخراب الذي عمّ في روحي ، منذ أن شحّ راتبي التقاعدي . لكن الفتاة الجميلة وضعت قدح الشاي أمامي وأنصرفت تمشي وهي تتمايل بمؤخرتها ذات اليمين وذات الشمال ، حتى أن الهسهسة في روحي تراقصت معها على الجهتين .
قال لي رب المكتب بعد الشاي والسيجارة ، أن عملي بإختصار كتابة عرائض عن أفكار سيمليها علي هو من دون غيره ، وقال هي أفكار على شكل قصص ، سيحتاج بعض اللاجئين إليها ممن رفضوا من قبل البعثة الامريكية أو الكندية أو الأسترالية . فرحتُ حقا ، وتذكرتُ أن يومي كان سيئا منذ الصباح ، حين قرأتُ على الخاص رسالة من عزيزة على قلبي تطلب فيها قطع علاقتنا الى الابد ، ولم أعرف السبب . فرصة العمل أنستني الجرح البليغ الذي تركته رسالة عزيزة قلبي ، فوجدتُ طبيعة العمل تليق بمكانتي فعلا ، قلتُ في نفسي يا سلام على الحظ عندما يلتفت للانسان ، أن أعمل كاتب عرائض لاناس يحتاجون أليها في مثل هذه الشدة التي نحن فيها ، وليس حمالا ولا عامل بناء ولا غاسل أطباق في مطعم . رب المكتب وهو يتباهي بي ، كونه يعرف مكانتي الأدبية والصحفية قال لي : ولكن قبل أن نبدأ ، ثم توقف عن الكلام ، لم يكمل جملته التي قطعت انفاسنا ، نظر الى جاري ، ثم الى التافه الذي لم يرفع رأسه ، تصورت إنه غص في العبارة ، أو أن هيبتي العنطوطية منعته من قول الكلام الفصيح ، فأكمل : أريد ، قبل أن أوافق على عملك ، أريد أن أختبرك بقصة واحدة تكتبها ! ثم بعد قراءتها يمكنني البت بالموافقة على عملك.
عند هذه النقطة ، وقفتُ ، وضعتُ السيجارة غير المنتهية في النفاضة . وقفتُ بالإستعداد ، كأنني أريد محاربة الدنيا كلها . نظرتُ الى الجالس التافه خلف المكتب الذي لم يرفع رأسه إليّ . ثم الى جاري ، وبعدها الى صاحب المكتب ، ثم خرجتُ رافعا رأسي ، وهم ينادونني، ( يمعود شنو القصة ، با لله عليك يمعود) فلم أجب ، واصلت المشي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى