محمد مزيد - أمرأة الباص.. قصة قصيرة

كان علي الذهاب الى أنقرة بقصد تجديد شهادة الحياة في السفارة العراقية . غالبا ما أسافر ليلا ، حتى أصبح فجراً في العاصمة . لم أنم قيلولتي هذا اليوم، أستعداداتي للسفر هذه المرة ليست مضبوطة بسبب أنشغالات جانبية حصلت مع شريكة حياتي وغضبي عليها ، مع تفاصيل أخرى لم تخطر على بالي ، أنتهت هذه الانشغالات بعدم تمكني من الإلتحاق بسيارة السيرفس التي تقلني من منطقة سكناي الى الاوتوكار ( الكراج الرئيسي ) وكان يجب علي أن أستقل سيارة تاكسي حتى أصل بموعدي المحدد لأنطلاق باصات شركة سها في الساعة الثانية عشرة ليلا . وصلت سيارة التاكسي قبل الموعد بنصف ساعة . جلستُ بالإنتظار في كافتيريا تطل على ساحة الكراج يسمح التدخين بها . كان جلوسي أمام سيدة جميلة جدا ، فاتنة ، بيضاء ، شعرها حنى ، على خدها شامة ، تدخن سيجارتها وهي حزينة ، جعلت أبليسي يحوس . لاحظتُ عينيها تترقرقان بالدموع . بحثت عن ورقة كلنكس لتمسح قطرات نزلت على خدها البلوري فلم تجده ، بادرت ، وأعطيتها علبة كاملة ، شكرتني بالتركي ، قلت لها بالعربي عفوا . ألتفتت فرحة وقالت بعربية ركيكة : أذن أنت أربي . نعم أنا عراقي . ساد صمت بيننا ، ثم بادرتُها بالسؤال : لماذا كنت تبكين ؟ أطلقت تنهيدة قوية : أنا مسافرة للتخلص من عبء ثقيل حصل في بيتي .توقفت قليلا ، ثم أكملت : زوجي من أهالي هذه المحافظة وأنا من محافظة أسكي شهير . أشتغلت لدي الهسهسه ، فكرتُ : لابد أن زوجها سبب بكاءها . لمحّت لها بذلك فهزت رأسها بنعم . ماذا فعل كي يجعل ملكة الجمال تبكي . أشاع الاطراء في نفسها الراحة ، قالت : أنتم الرجال لاتشبعون من النساء . أجبت : وجهة نظر ليست دائما صحيحة . قالت إنها معلمة ، وزوجها يشرب الخمرة كثيرا ، وصلت معه الى مفترق طرق . بقيتُ أصغي لها حتى عرفت تفاصيل قصتها . قلت لها : أسمعي سيدتي ، يمكنك مواجهة زوجك بالصبر والحكمة وليس بالهروب من الواقع . قطع كلامي أعلان مذيع الكراج عن وقت أنطلاق الباص . فقالت هذه باصنا يدعوننا للصعود . صعدنا الحافلة ، ومن المفارقات إننا جلسنا في مقعدين معا ، أخذت هي جهة النافذة . ثم أصبحت أكثر مرحا وخفة وتخلت عن الوقار والبكاء ، قالت : أن فكرة مواجهته بالحكمة وعدم الهروب من الواقع راقت لي . ماذا ستفعلين ؟ هل ستعودين إليه ؟ كلا لن أعود . في تلك الإثناء سارت الباص ببطء لعبور تجمع الكراج قبل أن تستلم الطريق السريع . قالت : سأفعل مثلما يفعل ، سأرقص وأغني وأمارس المحرمات مع كل شخص يروق لي ، سأدمره من خلال جسدي الذي لم يحترمه . لا أعرف ماذا أقول لها ، أرتبكت ، صعدت الدماء الى راسي ، خفق قلبي بشدة ، وصارت الهسهسة في روحي مثل موسيقى ابليس ، خفت الا أكون أنا هدفها ، وبنفس الوقت تمنيت ذلك . في تلك اللحظات تنازعني شعوران ، أحدهما شيطاني والآخر رحماني ، فاذا سرت مع الشيطان ستكون خسارتي فادحة، بقيت أفكر في التماهي معها ، ونصحها كي لاتخسر نفسها. حسمت أمري وقلت لها : هذا خطأ ، ما تفكرين به زنى ، أرجوك لاتخسري نفسك بسهولة . بكت المرأة بحرقة ، سمع الركاب صوت بكائها ، طلبت مني أن أسمح لها بالنهوض وفسح المجال . وفعلا ذهبت مسرعة الى سائق الحافلة ، تحدثت معه بعصبية ، لا أعرف ماذا قالت له ، ثم توقفت الحافلة ، فتح لها الباب بعصبية أيضا وترجلت السيدة الحزينة بعد أن شملها الرحمن برعايته . وقفت على جانب الطريق تودعني وترمي لي قبلة عبر يدها الجميلة . ثم تحركت الباص الى أنقرة ، وأنا مازلت أراقب المرأة الجالسة إمامي في الكافتيريا بعد غفوة قصيرة ، لقد فاتني الباص .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى