حاميد اليوسفي - (الشيخة)* بنت فطّومة.. قصة قصيرة

فطّومة امرأة قوية الشكيمة . كلما طلقها زوج أو مات آخر ، تزوجت من جديد . وكأنها لا تستطيع أن تعيش بلا رجل . كل النساء في الحي يتجنبن الدخول معها في صراع . رغم سلاطة لسانها فإن يدها تسبقها دائما . حتى في الحمام يفسحن لها المجال أن تحل في المكان الذي تختاره .
البنت كبرت بسرعة . بعد موت والدها وزواج أمها من رجل آخر غادرت المدرسة . أطلق عليها الجيران اسم بنت فطّومة ، لان أمها لم تنجب سواها بعد ثلاث زيجات . حظيت باحترام الأطفال من الجنسين خوفا من بطش والدتها .
رغم حب فطّومة لابنتها حليمة ، فإنها لم تستطع أن تخفف من كراهيتها للرجل الذي احتل مكان والدها في البيت والفراش .
أحبت حليمة الغناء والرقص منذ نعومة أظافرها ، وتمنت أن تكون مطربة . تغسل الأواني في المطبخ ، وتغني مع أم كلثوم ووردة وميادة الحناوي ونعيمة سميح وعبد الهادي بلخياط وعبد الحليم حافظ . لاحظت من بعد ، وهي تتمرن على الرقص داخل غرفتها عندما يخلو البيت من أهله ، أن هذا النوع من الغناء لا ينسجم مع شكل الرقص الذي تحبه . اضطرت إلى حفظ وترديد بعض الأغاني الشعبية . استهوتها العيطة بجمال معجمها القريب من لغة الشارع وتجاوب الناس القوي معها.
وهي لم تتجاوز العشرين من عمرها ، بدأ جنون العيطة يسكنها شيئا فشيئا . عشقت أبطالها حد الوله ، وتمنت لو كانت واحدة منهم . أقسمت مع نفسها ألا ترتبط بحبيب أو زوج إلا إذا حضرت فيه نخوة وشجاعة بطل من أبطال العيطة .
لم ينبهها أحد إلى أن أبطال العيطة مثلهم مثل أبطال الحكايات والروايات دمهم مسحور، ومن يتمنى أن يكون واحدا منهم ، حكم على نفسه بأن يسقط في هوة بلا قرار .
أول مرة سيكتشف سكان الدرب موهبتها في الغناء ، حدث ذلك في عرس سعد بن مالك الفرن .
حضرت كمدعوة رفقة والدتها . قطعت وصففت شعرها في صالون للحلاقة ووضعت الماكياج ولبست التكشيطة* . في الأحياء الشعبية يخصصون الفترة الزوالية من الحفل للنساء . أغلب بنات الحي يعرفن أن حليمة تجيد الرقص والغناء الشعبيين ومولعة بهما . قدِمت أخت العريس ناحيتها ، سلمت على والدتها ، وقبّلت رأس حليمة وترجّتها أن تنهض ، وطلبت من أحدهم أن يأتيها بالميكروفون . قبل أن تمد يدها وتستجيب للدعوة نظرت إلى والدتها . ابتسمت فطّومة ووافقت بإيماءة من رأسها .
طلبت من صاحب الجوق عزف لحن (العلوة) العيطة الشعبية المشهورة . استكثروا عليها أن تبدأ مشوارها من السماء السابعة . لأول مرة تقف وراء جوق ، وأمام حشد كبير من النساء وجها لوجه . أخذتها هزة من الداخل . احمر خداها ، وخفق قلبها ، وارتعشت يداها . مسحت العرق عن جبينها . استوت في وقفتها . انطلق الصوت من حنجرتها كأن وراءه قوة خفية تتحكم في صعوده وهبوطه :
"يا الغادي للعلوة
تعالى نوصيك بعدا
إلى وصلت سلم
العلوة لا تكلم"
شدت انتباه الحاضرات . ساد هدوء لا تسمع معه إلا صوت بنت فطّومة يهتز مثل هدير البحر ، يعلو وينخفض .
"مالي يا ربي مالي ، مالي من دون الناس
واحد في بيتو هاني ، وأنا بايت عساس"
أغلب النساء أخذهن الصوت بعيدا ، حتى اللواتي لا يرقصن بدافع الخجل وجدن أنفسهن يتمايلن وسط ساحة البيت .
"والغادي واش تشوف
والجاي واش تشوف
العلوة كلها سيوف
حبيبي ساروا ما علموني
خليني نبكي خليني نشكي"
أخذت الدهشة أفراد الجوق . همس أحدهم في أذن الآخر :
ـ هذه البعلوكة* سيكون لها شأن كبير .
سقطت الكثير من الأوراق النقدية تحت قدميها ، لكن للأسف ستكون من حظ الجوق ، فهي مجرد ضيفة . عندما أنهت الوصلة توالت التصفيقات من كل جانب قبّلت أم العريس رأسها ثلاث مرات ، وهي تكاد تطير من الفرح ، وتدعو لها بالزواج في القريب العاجل ، وتعدها بالرقص في عرسها . هزتها نشوة غريبة ،. لم تكن تعلم بأن ما فعلته اليوم في عرس سعد بن مالك الفرن سيقلب فيما بعد حياتها رأسا على عقب .
في اليومين المواليين لا حديث في الدرب بين النساء والفتيات إلا عن صوت حليمة بنت فطومة . قالت إحداهن :
ـ أين كانت تخبئ الجنية ذلك الصوت الذي تدفق مثل النهر دفعة واحدة ؟
وقالت أخرى مستغربة :
ـ من لم تغن حليمة بنت فطومة في عرسها كأنها لم تقم عرسا !
بعد أسبوع جاء صاحب الجوق يبحث عنها في الحي . وترك لها بطاقة تحمل اسم الجوق ورقم الهاتف ، وطلب منها أن تتصل به في أي وقت إذا رغبت في العمل معه .
منعتها والدتها من الذهاب ووضعتها أمام خيارين :
ـ إذا اشتغلت مع الجوق لا أنت ابنتي ولا أنا أمك .
دخلت غرقتها وأغلقت عليها الباب . بكت كما لم تبك من قبل . أحبت الغناء بصدق ووجدت فيه شخصيتها ، لكنها لا تستطيع أن تضحي بسندها الوحيد في هذه الحياة . هدأ من روعها إحساس دافئ نابع من تاريخ قديم ، عندما تضع رأسها في حضن والدتها ، تشعر بأنها امتلكت العالم بأرضه وسمائه .
كتمت آلامها وظلت تشدو داخل البيت مثل عصفورة في قفص .
لم يمهل المرض فطّومة ، بعد سنة خطفها الموت في عز قوتها .
اختلفت حليمة مع زوج والدتها حول الميراث . باعا البيت والحلي ، وأخذت نصيبها ، واكترت شقة صغيرة بعيدا عن مسقط رأسها . عملت في رياض مع الفرنساويين . لم ترتح ، وهي تظل ترتب الغرف ، وتغسل الأواني والصحون ، وتنظف المراحيض والممرات من أجل أجر زهيد في نهاية الشهر، يقدمونه لها وكأنه صدقة .
فتحت حقيبة ثيابها ، وبحثت عن بطاقة الجوق التي ظلت تحتفظ بها مثل طوق نجاة . مضت سنة على وفاة والدتها . لم تغضبها في حياتها . رحلت وهي مرتاحة . في اليوم الموالي زارت قبرها . رشته بماء الزهر ، وقبّلت الشاهدة ، ثم اتكأت عليها . وحكت كل ما وقع لها بعد وفاتها ، وشكت ما عانته من وحدة ووحشة وفقر وحزن وألم ، وهي تسير في الطريق الذي يُرضي الناس ولا يُرضيها . ثم دعت لها بالرحمة والمغفرة ، واستأذنتها في أن تسمح لها بأن تعيش حياتها كما تريد ، لا كما يريد الناس . شيء ما مثل النور يلوح من بعيد ويمس روحها بلهيب دافئ . مسحت دموعها ، وأحست كأن والدتها تحررت من ضغط الأحياء ، ووافقت على الطريق الذي اختارته لنفسها . وعدتها بأن تزور قبرها في المرة القادمة وهي أحسن حالا ، وتخبرها بكل ما فعلت .
في اليوم الموالي ، هاتفت صاحب الجوق ، وضربت له موعدا . اتفقت معه على الأجر وشروط العمل . فطنت إلى أنه هضم حقها في الأجر الذي تستحقه . لكن عليها أن تصبر في البداية ، حتى ينتشر اسمها ، ويذيع صيتها ، وآنذاك يمكن أن تُفاوض من موقع قوة .
قضت الصيف كله في تنشيط الأعراس . تشتغل طيلة أيام الأسبوع إلا الاثنين جعلت منه يوم راحة .
تحسّن دخلها . اشتغلت مع أجواق كثيرة في الأعراس والحانات . أصبحت تفرض السعر الذي يناسبها . شغّلت معها حارسا شخصيا قوي البنية يحمل الحقيبة ويقود السيارة .
في الأعراس الكبيرة اكتشفت عالما آخر . بعض الناس لا يخجلون من أنفسهم أو أولادهم ونسائهم .
كم مرة علّق لها أحد السكارى بعض الأوراق النقدية وهمس في أذنها :
ـ أريد أن أراك بعد انتهاء الحفل .
تراوغه بمرونة ، وتتمنى مع نفسها لو صفعته حتى يطير السكر من رأسه ، وتهمس له :
ـ نلتقي في الحانة كذا يوم كذا .
لا أحد اهتم لبنت فطومة التي تغسل الأواني ، وتنظف المراحيض في رياض النصارى أكثر من عشر ساعات بأقل من ثمانين درهما . أما الشيخة* بنت فطّومة عندما تُطلق العنان لحنجرتها ، فيمكن بإشارة من أصبعها أو إيماءة من رأسها ، أن يركع تحت رجليها من تشاء من وجهاء المدينة وأثريائها .
البعض أُعجب بصوتها ، والكثير لا يفهم في الغناء والموسيقى ، وكل همه في هز الأرداف ، وترقيص النهدين ، وتحريك صرة البطن بخفة حتى يسيل لعابه ، ولو أتيحت له الفرصة ، وانفرد بها في مكان خال ، لنهشها مثل كلب ضال .
حدث معها مرة في إحدى الحانات أن جرت كلبا من حِجره ، بعد أن تجاوز حده ولمس مؤخرتها وقالت له :
ـ شرفي هنا (وأشارت إلى رأسها) يا ولد الكلب ، وليس بين فحدي ، ولن تستطع لا أنت ولا جدك أخذه مني .
عاشت مثل بطلات العيطة . أحبّت البعض ، وكرهت البعض . من أحبّته ، أحبّته بصدق ، غنت ورقصت له بحب ، لا طمعا في مال أو زواج . ومن كرهته ، كرهته بصدق أيضا ، ولم ترضخ لنزواته حتى ولو فرش لها كل الأرض بالمال والذهب .

مراكش 23 / 07 / 2020
(*الشيخة : مطربة شعبية / *التكشيطة : لباس مغربي خاص بحضور الأعراس والمناسبات / العيطة : لون قديم من الغناء الشعبي في المغرب / *العلوة عنوان أغنية مشهورة صعبة في الأداء وفي اللهجة الشعبية : الهضبة المرتفعة ومسقط الرأس والأم الحنون ../ *البعلوكة : الطفلة التي تتقمص دور شخصية أكبر منها ، ويقصد بها هنا المبتدئة .)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى