جلنار عبدالله - مختار " ابن حارتنا ".. قصة قصيرة

لا يختار الحزن فريسه ، لكنه يختار رفيقه ! وأختار الحزن " مختار " خيرة أبناء الحج منصور ، وأختارت الاقدر مثله ، " مختار" اجمل أبناء الحج منصور ، وأعذبهم ، وأحنهم قلباً

فحين أختار الحزن " مختار " جعله يلتحف دوماً بالصمت ، حتى في احلك الساعات التي يحتاج " مختار " ان يصرخ فيها ، إن لم يكن بفمه ، فتعبيراً بيده ، بنظراته بأي شيء ، لكن " مختار" أختار الصمت ! والصمت لغة لا يفهمها احداً كما يفهمها " مختار"

وحين أختارت الأقدار ! أختارت أيضا " مختار " فكان أصم ، أبكم ولعلها رحمة الخالق به ، وحكمة منه يجهلها الكثير ! حتى " مختار " نفسه !

شب مختار على الصلاة في مسجد حارتنا القريب ، الذي لا يبعد عن بيتهم بأكثر من عشر خطوات ! لم تكن أم مختار إلا النسخة الأصلية عن ولدها " مختار" والحج منصور رجل طيب جداً ، يعرفه الجميع ، ويحبه كل من في الحارات المجاوره !

حين اصبح " مختار " رجلاً ، وفتلت عضلاته ، ظهر له شارب خيف مائل للشقره ، اضاف إلى " مختار " بهاء ، وخطت اللحية الأولى جوانب وجهه ، فتركها حتى أكتملت ، وسبحان من " خلق " وجهاً بمثل جمال وجه " مختار "

حين تعرفت إلى مختار ، كنت أظنه أصغر مني ! ولأني كنت أتميز بأشياء عدة منها أني لا أفرق في صدقاتي بين الاولاد والبنات ! رغم تحذير أمي بقص ضفائري إن بقيت لا اصاحب إلا اولاد الجيران ! إلا أني بعد أن الف ضفائري تحت طاقية أخي الواسعة وكأني بغباء الاطفال سأحميها من أمي أن علمت أني مازلت أبحث عن اصدقائي الاولاد !

ومنذ إنتقال وظيفة أبي إلى مدينة " إب " وسكننا بجوار بيت الحج " منصور " وأنا لا أعرف إلا مجالسة " مختار " رغم أن " مختار " لا يتحدث إلا بإلإيماءة ، وأكثر مايفعله أن يبتسم في وجهي إبتسامته الصفراء !

ولأن السنوات تهرب منا سريعاً ، تعرفت أكثر إلى " مختار" وكثرت إيماءته لي ، واشاراته ، بل اصبحت أفهم لغته ،فأهمهم مثله ، ويسألني اولاد الجيران عن مايريد قوله " مختار " حين اجره من ركنه الذي لا يتركه في زاوية " دكان " العم محمد " محاولة مني ان اجعله يلعب منا ! وكنت صديقة مختار ! إلى أن قرر أبي أن يلبسني " اللثمة "( 1)




ومااكثر ماتركت اللثمه في دهليز(2) بيتنا ، وخرجت الهو وحين اعود اضعها بطريقة عشوائيه ، وكأني متأكدة أنهم لن يعلموا أني كنت العب مع ابناء الجيران في الخارج ! فيقهقهه أبي ضاحكاً وتزجره " امي " بعينيها فيعبس وجهه قليلاً، لكنه لم يكن يصمد طويلاً امام نظراتي المعاتبة له .

ولأن " مختار " صديقي ، فقد شغف بأبنة الجيران ! وكنت وحدي كاتمة أسراره ، وساعية بريد لمختار وحبيبته .. وما أنقي مختار حتى في " حبه "

وكبرنا ، لتكبر معنا مشاكلنا ، وأصبحت أخاف " كلام الناس " فأجتاز عتبة بيت " مختار" دون أنظر كالعادة من ينتظرني هناك ، لكني صممت أن ابقى " مرسال غرام" بين مختار ، وزينب " حبيبة مختار " وساعدني أكثر أني تعرفت على أخت " مختار" الأصغر منا فكنا ثلاثي رائع ، أنا أبحث عن سعادة " مختار " وكأني تصورت أن الله خلقني لأحقق له السعادة ، وإنه لن يجدها إن لم أكن أنا بجواره ! رغم أنني كثيراً ماتسألت إن تزوج " مختار " زينب ! كيف سيتفهمان ! لم أكن أعلم أن الحب لدى زينب لا يعني بالضرورة الزواج !
" ومختار " عاشق ! ومدن ثكلي بالحزن الصارخة من عينيه وغريق تعلق بي ، كقشة يصل إليها إلى مالم يكن سيصل إليه ذات يوم !
وأخته ! عالم أخر من الطفولة المجنونه تحوم حولنا !
وأنا اتألم لمختار لكني لا أستطيع أن افهمه أن " زينب " لاتبحث عن زوج ! وحين جئت افهمه ! ظن بأني كبرت ، واصبحت اتمناه لنفسي ! لم يفهم إن " صديقي " في قاموسي لاتعني " حبيبي " ! ولم يخطر " مختار " في رأسي أيام مراهقتي ، كما خطر " سوبر مان " في أفلام الكرتون ! حتى وأنا أصبحت بمفهومهم " امرأة " !

لكن ماذا أفعل لمختار ! وذهب مختار ، واختار ساعي بريد غيري ! وانتشرت حكايتهم ! وفشيء السر ولم يعد بين أثنان ! فعلم ابا " زينب " والحج " منصور " وكقرار الكبار دائماً / قررا تزويجهما !

" مختار " يختال فرحاً ، منتشياً بإبتسامة عذبه لم اشهدها فيه قط منذ كنا صغار ! وزينب حانقة ، تبكي ليل نهار ! " ساتزوج أصم ، وابكم ياحظي " !

مر شهران ، والولهان " مختار " عصفور الجنة ، يذهب للمسجد ويعود مسرعاً إلى بيتهم وبالذات إلى غرفته في الطابق الأسفل ! صغير في صورة " رجل " يقرر أن يعمل في محل والده " نجار " كي يرضي زوجته التي ابداً لن ترضى !


وقرابة عام ، لم تأتي عيناي بعينا " مختار " كنت في آخر سنة " الثانوية " ، أشعر بأني مازلت اطمح لأكثر من مجرد " ثانوية عامه " لكني لم اترك همسات عن " مختار ، وزوجته ، المتذمرة دوماً ، تفلت مني دون أن أعاتب نفسي ، وشعوري الدائم ظل ، بأني جنيت على " مختار " وأني الجانية وحدي !



وآخر مره التقيت فيها بزينب ! كانت بصحبة " شخص آخر " في احدى الاسواق ! وتلعثمت حين راتني أتفرس فيها ، وددت حينها لو اغرس خنجراً في صدرها وأنطلق مسرعة إلى " مختار " لأخبره بأني انقذته !
لكن المنطق اسرع إلي ، ومضيت على مضض ، والألم يعتصرني ، وكأن الطعنة جاءت بي ولم تكن بمختار ! فمختار لا يسمع ! ولا يتحدث ! ولن يصدقني !

وجاء نبأ حمل " زينب " صاعقة على روحي ! " هل ...! أهو ؟؟ ! من ..!؟

لكن أسئلتي انتحرت دون إجابه ، حتى جاءتني ذات صباح أختي الصغرى ، تخبرني أن أم مختار ، والحج منصور ومختار واهل الحارة ملتفين حول بيت " مختار " ، وإن مختار " يبكي " !

هرعت لأرى ماذا جد هناك ! وما أن دلفت " دهليز " البيت حتى سمعت ولولة أم مختار على حظ ولدها ، وبين يديها رضيع لم يتجاوز الشهر ! ومختار يتدلى كرجل " مشنوق ، على باب غرفته ، يضع حول رقبته شال أحمر بلون الدم ، ووجهه متكىء على قاعة يده ! حوله ابناء الجيران ونساء الحارة ملتفين حول الغرفة !

حين لمحني ، رغم اللثمه " عرفني ، فكان يهمهم ، ويؤمي لي ، ويحدثني ، وأظنني تاه عني كل ماقاله ، فتسألت بصوتاً مسموع !

" أين زينب" !! جاء الجواب مراً ... كالعلقم ! " هربت منذ أسبوع لا يعلم عنها أحد شيئاً ، لكن الناس قالوا ، انهم رأوها مع جارنا الجديد !الذي سكن الحارة منذ عام !

لايختار القدر فريسته إلا منا نحن ، البسطاء ، ولا يختار الحزن اصدقائه إلا امثالنا نحن الغرباء .. مختار " الرجل البسيط جداً .... والجميل جداً ... كان الحزن صديقه منذ عرفته ، ومنذ أن غادرت "إب" وأخبار مختار تصلني ! فمازال مختار " يلتحف بالشال الأحمر حول عنقه ، ويظل على بوابه داره حتى تغيب الشمس ! ويغيب اليوم ولا يغيب الحزن عن مختار !!

_______________
1- اللثمة / وتعني غطأ الوجه ، أو النقاب
2- الدهليز / وتعني أسفل المنزل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى