مجدي جعفر - انتظـار

أمام الدار الواسعة، المطلة على الجسر ، ومن خلفها مساحات شاسعة من الأراضي المنزرعة ، كان يجلس إلى جانب جده ، وجده شيخ كبير ، تسللت الشعيرات البيضاء إلى رأسه ، وانحنى عوده ، وصار يابساً كعود الأذرة الناشف ، وبصعوبة بالغة كان يميز ملامحه من وجهه الفاحم المحروق.
يقبع جده على المصطبة وحده ، من بعد صلاة الفجر ، ويبقى في جلسته بثيابه المهلهلة إلى ما بعد صلاة العشاء ، لا يقوم خلال هذه المدة إلى أن يرفع المؤذن صوته مُعلناً عن الصلاة.
يتكئ بيسراه على عصاةٍ صنعها من شجر الصفصاف ، ويضع يمُناه على كتفه ، ويسير به إلى المسجد ، وطوال الطريق لا يكف عن التمتمة بكل الأدعية الموروثة والمحفوظة.
أحب جده في وقت لم يجد فيه أمه ، فهي مشغولة ، مشغولة دوماً بالتنظيف للبهائم وحمل الروث السَّاقط لتوه ولتصنع منه وقوداً ، ولم يكن لديها الوقت لتلتفت له فيه ، وأخوته كلهم في المدرسة ، عدا علاء الملتصق بأمه ، ليمص ثديها الذي ترهل ، وبطنها دوماً منتفخ.
لم يذكر أنه رأى بطنها سوياً أبداً ، كما لم يذكر أنها تفرغت قط ، ترش الماء أمام الدار بعد أن تكنسها ، وتحيك الثياب ، وترقعها ، وتلج الحب في مناقير الطيور ، وتطهو الطعام وتنقله على رأسها إلى الغيط لأبيه الذى اتخذ من الحقل مرتعاً له ، دوماً في الغيط ، في الصيف وفى الشتاء ، وفى الر بيع والخريف.. تمسك بجده لأنه الوحيد المتفرغ.. الوحيد الذي يسمعه فلولاه لا نفجر من الغيظ .. يهرع إليه فور أن يصحو من نومه وقبل أن يذهب إلى الترعة ليغسل وجهه ليتناول معه لقيمات الفطور المقددة التي يغمسانها بالعسل الأسود ، وبما تجود به أمه عليهما من بقايا لفت وفتات جبنة قديمة.
يحدثه جده الصديق عن أيام زمان ، يجد نفسه مشدوداً إليه ، يسمع حديثه بإنصات بالغ ويعي ما يقوله عن الإنجليز .. وسعد زغلول ويصوره في الذاكرة .. يحدثه عن أمجاد الفلاحين وبطولاتهم أيام الاستعمار .. عن مغامراته في حرق معسكرات الأعداء ، وتربصه لجنود الإنجليز في غيط القصب .. يحدثه جده الصديق عن الخير والشرف والحكمة .. عن الأفراح زمان والليالي الملاح ، عن عنترة وأبى زيد الهلالي .. عن ياسين وبهية ، وحكايات ألف ليلة وليلة.
بدوره كان يحدث جده الصديق عن همومه فلا صديق له سواه فأمه مشغولة ، وأبوه في الغيط ، وأخوته في المدرسة .. يقول لجده وهو يشعر بقسوة الوحدة والإهمال :
متى يتفرغون لي يا جدي .. فأنا أنتظر ..
يربت جده على كتفه بيد معروقة ، وينظر إليه بعينين يقرأ فيهما عمق الماضي الحزين ، ويهدئه قائلاً "وأنا أيضاً ..
ليندهش فزعاً .. "وأنت ماذا يا جدي ؟
يقول والدمع يترقرق في مآقيه :
"وأنا أيضاً أنتظر" !!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى