مجدي جعفر - المهــر.. قصة قصيرة

( 1 )

حين جاء الليل، لم يستطع أن ينام فالليل نهار في شقة الجيران، موسيقى صاخبة، ورقص وضحكات مرتفعة، من شيش البلكون تتسرب إليه، حتى رائحة العطور تقتحم الغطاء الذى أحكمه حول جسده فيزفرها ضيقاً وغضباً .. لامّ نفسه لأنه نزل في شقة مفروشة.

أزاح الغطاء بعنف ونهض واقفاً مطلقاً تنهيدة شديدة، أضاء النور، وفتح باب البلكونة، لا يفصل بلكون الشقة التي نزل فيها عن بلكون شقة الجيران سوى سور صغير، كان صوت الموسيقى في البلكون أكثر صخباً، والضحكات أعلى، ورائحة العطور أنفذ.

من عينيه طار النوم، كانت الأضواء هناك خافتة، أتاحت له النافذة مساحة لا بأس بها من شقة الجيران، تكشف بوضوح عن الأشخاص الذين يحتلونها .. قام بإطفاء النور، بعد أن استحال النوم .. وقع نظره على امرأة تبدو فوق الأربعين من عمرها، ممتلئة قليلاً ولكنها ليست مترهلة، أنيقة بلا تكلف، جميلة بلا فضول، لم يكن بحاجة إلى فراسة، ليعرف أنها صاحبة الشقة، من غدوها ورواحها، وتوزيعها الابتسامات على الضيوف .. لم يمض أسبوع عليه في الشقة حتى تعرف على أغلب سكان العمارة، من خلال البواب الذى يثرثر دوماً معه .. تذكر ما قاله البواب بأن شقة الجيران يمتد فيها السهر حتى السحر، ولا تنقطع الحفلات.

المرأة الأنيقة تدير جهاز تسجيل، تنبث منه موسيقى صاخبة، ينهض البعض على أنغامها راقصاً، غمزت بعينها إلى شاب يبدو في الثلاثين، واتجهت إلى البلكونة، ماكادت تمسح بعينيها المكان، حتى وجدت الشاب الأنيق إلى جوارها، يلف خصرها

بيده، وصدح في أذنها بكلمات لم يتبينها، دفعت صدره برفق، وانفلتت من بين ذراعيه قائلة بدلال : " هيا بنا ندلف حتى لا يثيرهم غيابنا ".

( 2 )

في الجو مرقت طائرة، تابعها بعينيه، اغرورقت عيناه، اتكأ بمرفقيه على سور البلكونة، وجد نفسه في بزته العسكرية، وقائد الكتيبة يثنى على مهارته، كان نموذجاً للعسكري المنضبط ، تطوَّع في الجيش - رغم أن أباه تطوع للقتال في 1956 وجُرح وحين أراد الانتقام في 1967، كانت رصاصات العدو أسرع – احتضنه جده من دون أحفاده، المخلاة على ظهره، والبندقية على كتفه، والخوذة فوق رأسه.

والمرأة الأنيقة تغلق جهاز التسجيل، فيلف الصمت المكان للحظات، تعلن خلالها عن مفاجأة من مفاجآت حفل الليلة : " سيداتي .. سادتي .. "

حشر أشرف رأسه بين ذراعيه، متكئاً بمرفقيه على سور البلكونة ودموع جده تتسَّاقط من عينيه، ويغمض عينيه بتلذذ، يحبس الدموع فيهما وكأنها لآلئ أو جواهر، يترحم عليه ويقرأ في صمت الفاتحة له.

يتسلل إلى أذنيه صوت المرأة الأنيقة وهى تخطب في ضيوفها : " يسعدني أن أقدم لكم مفاجأة الليلة المطرب .. ( ... ) والراقصة ( ... ) .. تصفيق، وصفير وتعليقات من المدعوين.

قائد الكتيبة يعلن عن مسابقة في السباحة : يقول لميخائيل : " لن أدعك تتقدم علينا هذه المرة .

يخرج ميخائيل لسانه ضاحكا :

- " مازال نفسك قصيراً وتحتاج .. "

- " تقدمت علينا بضربة حظ، كان بيني وبينك شبر واحد .. "

- " الحظ لا يأتي غير مرة واحدة، وأنا فزت عليك خمس مرات .. "

نفخ أشرف وقال بغيظ :

- " وأنا تقدمت عليك في الرماية ، و..... "

يضبط القائد قابعاً في صدره : " دعوا الشمس تحرق وجوهكم، لا تأبهوا بالبثور التي طفحت على جلودكم، تسلقوا الجبال، ازحفوا، لا تتأوهوا إذا لسعتكم النار.

المرأة الأنيقة من حلبة الرقص خرجت، على كرسي وثير جلست، إلى جوارها امرأة ناحلة الصدر، فارعة القد، مالت عليها هامسة :

- آي العطور تستخدمين ؟!

" من وابل الرصاص في سيناء تخندقوا في حفرة تحت الأرض، اختلطت رائحة الدم برائحة العرق، يشتمه عطراً، كؤوس الخمر تمر على الضيوف حسب الأهمية، وقطرات ماء في قعر الزمزمية تنتقل من فم إلى فم 0"

- فستانك شيك!

- من باريس!

ثيابه مهلهلة كمعظم الأطفال في القرية: " زاد الخرق على الراتق "، لم يعد يستر العورة يا أمي ".. " فرجه قريب يا ولدى "

- مزاد العربات في لندن هذا العام غير معقول!!

.. نهق حمار في الزريبة :

- " ناء كاهله من كثرة الأحمال يا أمي "

فتى ينظر لفتاة بشبق، ينظر لعسكري إسرائيلي بشذر، يلف خصر الفتاة بيديه، بيديه الممتلئتين يلف عنق العسكري، يضغط الفتى يد الفتاة، يضغط على عنق العسكري، يلثم عينيها، ينبش عينيه بأظفاره.

- رائحة الشواء تملأ أنفي يا هانم !!

- " الجوع يقرص أحشائي يا أمي "

- تجلد يا ولدى .

( 3 )

لم يزل متكئاً على ذراع الذكريات، يذهب إلى تلك الليالي الطويلة، يتسلل من الخيمة وفي جيبه راديو ترانزستور صغير، يبحث في محطاته عن أم كلثوم ويبحث في القمر عن وجه هند.

يحتضن رسائلها، يقبلها كلمة، كلمة، يقرأها للمرة الألف، يشتم رائحة الورود التي نثرتها على الرسالة، ورائحة العطر الذى ندتها به.

هند سامقة كنخلة، ملفوفة القوام، وقع في هواها، تمشى بدلال كغزال، وعيناها السوداوان أصابت سهامها قلبه، وشعرها جعد أثيث فاحم، ترسله خلفها فيغطى كل ظهرها، ووجهها بلون طمي النيل، مهرة عربية أصيلة، كل خيالة القرية والقرى المجاورة خطبوا ودها، تأبت وتمنعت، وجدت في أشرف فارسها، وفتى أحلامها.

- مهرك، مهرك يا عروسه!

- مهري غالٍ، غالٍ،غالٍ.

- لو طلبت النوق الحمر سأكون عنترة.

- مهري أغلى وأكبر.

- حيَّرتِني ،قولي يا عروسه؟.

- سينا، سينا مهري.

( 4 )

إيقاع الموسيقى في الشقة المجاورة يزداد، آلات موسيقية، وشباب مهووس يعزف بهستيريا، وصوت لمطرب مخمور ونصف مشهور يبتذل كلمات رخيصة، وراقصة تكاد تكون عارية تأتى بحركات ماجنة وألفاظ سوقية.

سنوات ست لم يستطع أن يُقبل هنداً أوحتى تتشابك أيديهما، وتتعانق ..

شاقة هى التدريبات، وطويلة الأيام، متى؟، متى تنتهي هذه الأيام؟.

تنتهي هناك على الشاطئ الآخر من القناة.

عالٍ هو الساتر الترابي، ينظر إلى القناة وإلى الساتر الترابي، آهٍ لو نعبر ونجتاز هذا الساتر، نتوغل ، نتوغل ..

تتحرر الراقصة أكثر، ويزداد المطرب النصف المشهور ابتذالاً، يتذكر أم كلثوم التي زارتهم على الجبهة ، وغنت لهم، وعبد الحليم .. كم قضى معهم الساعات الطويلة وهم يتدربون، يغنى لهم ويشد من أزرهم .

( 5 )

تقول هند : " سيعبر الفارس القناة، ويدك بقدمه جبال الرمل، يمتشق سيفه، ويمتطى جواده الأشهب، سيفر من أمامه جرذان يهود، سيأتي، ويأخذني، ويقدم لي سينا مهراً، نبني هناك عش حبنا، ونزرع نخلاً وزيتوناً، وأنجب له ولداً وبنتاً، و... "

سعيداً كان يقرأ لميخائيل أحلام هند، فأحسَّ بقلب ميخائيل يدمع قبل عينيه، طوى الرسالة وقال :" ماذا بك يا ميخائيل ؟"

ميخائيل الأقرب إلى قلبه رغم ما بينهما من تنافس في التدريبات ..

التزم ميخائيل الصمت، ولأول مرة يرى دموع ميخائيل، خشي أن يكون قد أصاب أهله مكروه، همَّ أن يسأله، ولكنه ابتلع السؤال، فميخائيل الوحيد الذى لم يأخذ أجازات، ولايسعى إليها، منذ متى لم ينزل ميخائيل أجازة ؟ .. عام .. عامين.. لا يذكر، صعب أن يبوح ميخائيل بسر، شاب صعيدي، عنيد كثور، احترم صمته ودموعه، بيدين حانيتين هدهد عليه، وانصرف.

( 6 )

يتسلل إلى أذنيه صوت المرأة الأنيقة وهى تعلن عن مسابقة الرقص، ينهض المدعوون فرادى وثنائيات ، ..

وقفوا صفوفاً، وطوابير، تراصوا بانتظام ودقة ..

يعلن القائد عن اللحظة الحاسمة، هللوا، فرحين كبروا، الله أكبر، الله أكبر ..

قفز أشرف في القارب : مهرك يا هند!

صاح ميخائيل : رجولتي يا جيلان!

( 7 )

في الليل، تخندق ميخائيل وأشرف في حفرة واحدة، وفي عيونهما أفراح ودموع، يقبل ميخائيل رمال سيناء الغالية، ويسجد أشرف شكراً لله، ويقول ميخائيل بدموع وابتسامات : " سنوات ست، عجاف يا أشرف "

تنهد أشرف تنهيدة طويلة، بطول البُعد والعذاب والحرمان وقال :

- كل يوم يمر يا ميخائيل كأنه دهر، فأبى جُرح في 1956، وقُتل في 1967، وهند تنتظر أوبة الفارس ..

قاطعه ميخائيل :

- هند، هند بنت مصرية معجونة بماء الوطن والحياة وسكت قليلاً ، ثم قال :

- لا تؤاخذني يا أشرف إذا قلت أنك حتى الآن لم تفهم هنداً.

واستطرد ميخائيل :

- هند في أعماقها تحب الحياة، وتعشق الوطن، كيف تستقر الحياة والوطن سليب، سلني، سلني أنا يا أشرف ؟ فالمرارة في حلقي، ست سنوات ولا تطيب لي الحياة و لا تلذ ولا معنى لها بالمرة، وبدأ ميخائيل يبوح بسره، تحول أشرف كله إلى آذان مصغية :

قبل يوم 7 يونيو الأغبر بأسبوعين ، أخذت أجازه لأتزوج جيلان، وجيلان حب الطفولة والصبا، وعشقي الأزلي، أنسى بين ذراعيها الأحزان، تتوجني ملكاً على قلبها وعلى كل الدنيا، فتاة فريدة لا تتكرر مرتين ..

أسبوعٌ، أسبوعٌ واحد يا أشرف، دخلت فيه جنتها، سقتني الشهد، وكأن الكلاب استكثرت علينا السعادة، فغدروا بالوطن، شعرت بأن سكيناً انغرس في لحمي، في قلبي ، في ..

ومنذ ذلك اليوم يا أشرف، وأنا لم أستطع ...

نعم، نعم يا أشرف، كانت تحاول معي ولكني في كل مرة ..

قال الطبيب أني سليم مائه بالمائة.

حتى السحرة - المتمرس منهم - قال : لا عمل هناك ولا يحزنون، حملت همومي، ولملمت نفسي المبعثرة، ومضيت إلى الكنيسة، خلعت نفسي أمام القسيس، رميت حمولتي، بوجه باش قابلني، و بيدين حانيتين هدهد عليّ، أحسست بأنه يمسك قلبي بين إصبعيه، ويغسله بماء الثلج والمطر، قال كلاماً كثيراً عن الوطن، والهزيمة، والرجولة ..

كلامه يتسلل حانياً ناعماً إلى قلبي، يدغدغ أحاسيسي، ويرقق مشاعري، وشعوراً دافئاً دافقاً يتملكني ...

كنت بين اليقظة والمنام، بين الوعي واللاوعي، أحسست به كجراح ماهر بلا مشرط

يزيل غشاوات ويبدد سحباً، و...

أدركت أنه لا علاج لحالتي إلا بدحر اليهود و طردهم شر طردة.

انسالت دموع ميخائيل.

سنوات ست يا أشرف ..

( 8 )

المرأة الأنيقة تعلن عن لحظة تقطيع تورتة عيد الميلاد، يلتف حولها المدعوون و يرددون مع المطرب النصف مشهور والنصف موهوب :

هابي بيرس دي ...

يجلس أشرف في الكوشة بجوار هند، تزغرد أمه وتغني بنات القريه، يقرصه شباب القرية والبنات يقرصن هند، يسلمه قائد الكتيبة هدية، يعانقه ميخائيل، وتعانق جيلان هند.

يهمس في أذن ميخائيل بكلمات ...

يضحك ميخائيل ويقول في ثقة :

- " يا حبيبي أنا ... ههه ههههه، جيلان تناديني" سيد الرجال ".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى