عبد الجبار عبد الستار الحمدي - مكان دافيء.. بحر بلا ذاكرة

عالم جديد صورت نفسي من خلاله، فبعد ان زججت الى قضبان بلا مصير أعيشه بسبب جريمة لم اقترفها كان ضحيتها من احببت، لا اريد ان اخوض في تفاصيلها لكن الحقيقة الوحيدة انها قُتلت على السرير وهي بصحبة رجل غيري... لم يكن قتلهما على يدي اقسم لكنها كانت يد القدر الذي اراد لي ان اكون الضحية... لم اسأله لِمَ؟ لقد سُممت نصيبي وما رمى به نرد القدر... كنت الخاسر الاكبر حياتي ومن كنت احب، كما ذكرت لا اريد الخوض بمعاناتي وتلك الايام اعني السنين التي حُكمت بها لكني ومن خلال تقب أمل وهو المحرم الصعب وربما الاكثر فتكا المميت عندما تحلم او تتمنى ان يكون لديك أمل... لكني امتلكته وهذا ما قاله لي مرة زميل في باحة ساحة السجن، إن الامل اخطر من السجن نفسه، إنه الموت الذي اذا سمع بك السجان او مسؤول السجن أنك تحمله سيعمد الى صلبك دون صليب.. غير اني لم اهتم الى كلامه واضبت على ان احيط نفسي بعالمي الخاص الذي احب، احببت البحر لانه بمخيلتي فضاء لا منتهي لكل الاحلام، فبرغم هدوءه هناك غضبه الذي ابتلعه في باطنه، لا يعكس صورته إلا حين يستشيط غضبا من حيامن تقذف في جوفه دون إرادته.. يُغَتصَب على أيدي من راموه وسيلة لنيل مآرب تسيد وسلطة ونفوذ، حينها ينقلب يظهر وجهه الغاضب الذي يطيح بقراصنة اعتادوا ان يخوضوا في عرضه وطوله دون ان يحسبوا حسابا لهيلمانه وكبريائة.. كنت انا ارى ذلك في مخيلتي اتصورني اجلس الى شاطئه على رمالة المبتلة التي تتغلغل بين اصابع قدمي تثيرني حد الدغدغة، اتمتع كأني اطارح من احببت على ساحله.. ما فاتني ابدا جمال هيبته وروعته حين مغيب الشمس وهي تدخل مَسَلِمة بهدوء كل نيرانها وهو يبتلعها كحبة عنب أو يستطعم حلمة ثدي أنثى.. يا الله ما اجمل شعوري وانا اجدل رماله واخط عليها اني من عشاقه، لكني اعلم جيدا أنه بلا ذاكرة لا يبقي في ذاكرته من احبه او من حقد عليه... فعالم موجه لا يبقي على سطحه اي شيء لذا تجد الموج يمسح كممحاة كل من يترك اثرا على سطحه إما بنزعه من حياة او إرساله الى قاع او يرمي به الى مرفا، لا يعير اهمية لمن يجول ويعوم او يتخبط في فضاء بحره، اما عمقه فتلك حكاية اخرى لا اريد الحديث عنها لأني اخاف الظلمة... بحثت طويلا في باطن مخيلتي عن عنوان استطيع ان اكتبه كي اعيشه بقية سنين اقضيها قابع في زنزانة بأربعة جدران... لا بل ثلاثة ورابعها قضبان تذكرني كل لحظة بأني حيوان بل اشرس من الحيوان، تذكرني بأني قاتل مع معرفتي أني بريء، هذا ما قاله زميلي حينما سألته عن سبب دخوله السجن؟ ضحك وقال: جريمة قتل لكني بريء كما كل المجرمين هنا اولست كذلك؟ بالطبع اجبته إني ضحية النظام القضائي والظروف، لم يصدق، ضحك وجعلني اضحك معه، كل من في السجون ابرياء عبارة نرددها علها تقنع الصوت الذي بداخل رؤوسنا يذكرنا بأنا ابناء الخطيئة التي اذنبت هي وكنا لقطاءها في لحظة طمع او فقدان عقل، المهم كلنا هنا مجرمون حتى السجانين وصاحب السجن، إنهم حيوانات مكبلة بقيود غير ان مفاتيحها بأيديهم، يطلقون شراستهم على من لا يرغبون به، فبالأمس القريب قتلوا سجينا فقط لكونه رفض الانصياع وظل يغني ليعبر عن حريته داخل زنزانته، كان الجواب الضرب بالهروات، كسروا فكه ورأسه فمات نتيجة ذلك... لم تكن جريمة يحاسب عليها القانون لأنه بنظرهم هو المجرم والقانون اليد التي قتلته شرعت ذلك... عالم مخيف اعيشه حاولت طويلا ان اركن الى الجانب الدافيء منه فقط حتى اهديء من روع نفسي التي تشعر ببرد القسوة والظلم على يد سجانون لا هم لهم سوى الجريمة المباحة في ظل القانون... فعالم السجون مليء بالعتاة والخارجين عن القانون، فالجريمة في الداخل هي مسموح بها، تبيح لهم القتل بوسائل اكثر تقنية فبنظر القانون انت مجرم قاتل فإن قتلت مجرما تكون قد نظفت المجتمع بذلك، قد يحكم عليك بزيادة لكنك لا تشعر بذلك فقد رسمت لحياتك ان تكون سجينا مؤسساتيا.. هكذا قال زميل لنا: خرج بعد ان قضى خمسين عاما بين اربعة جدران وعندما اراد الخروج رفض وبشدة، رفض العالم الحر قائلا: لأي شيء اخرج إن عالمي هنا بين هذه الجدران لا عالم لي في الخارج، لا اعرف احدا؟ فلا اهل ولا اصدقاء انا في الخارج لاشيء وغير مهم، لكني في الداخل مهم ولي شخصيتي عالم من السخرية يصاب بها السجين الذي يتقن كيف يدمن السنين افيون منتهي الصلاحية... اسابيع من خروجه كنا قد سمعنا أنتحر لينهي حياته بعبارة (الحياة خارج السجن أكثر قسوة عندما يرفضك المجتمع لأن تكون إنسانا آخر بعنوان سجين سابق، الحرية هي السجن الحقيقي بالنسبة لي)، لم تسلم ايامي من منغصات كنت بها ولا زلت اصبر نفسي على تحملها بأن اعيش عالم الخيال الذي نسجته على جدران الزنزانه مكان دافيء... بحر بلا ذاكرة مثلي اردت لها ان تكون بلا ذاكرة تنسى انها تعيش السجن، تنسج لنفسها عالمها لتستوطن فيه تركن الى ذلك الجانب الدافي عندما اقوم بإشعال نار على ساحل البحر ثم اجلس حولها انظر حيث أُفقِهِ اللامنتهي... اتوسل الى منادمته حينما يصيب موجه حبات الرمال التي يدفع بها وهي تردد آهات ذكريات من خاضوا هيجانه وسطوته.. أريد لنفسي ان اكون مثله بلا ذاكرة لا احب ان اعيش مأساتي او الذي حدث... إني أريد ان ابتلع كل أحزاني، دموعي، عذاباتي ومعاناتي، سأدفع بها الى عمق النسيان كما هو عمق البحر هناك حيث الظلمة التي لا استطيع بعدها تصفحها حتى لا تشعرني بضعفي كإنسان، فأنا إنسان بلا ذاكرة وقلبي دافيء يشعر بالطمأنينة... عشرون عاما انقضت وأنا عيش حلمي الذي رسمت وتخيلت، لم يصدق زميلي حينما اخبروه اني قد هربت حيث عالمي الذي أخبرته عنه.. كانت صدمة كبيرة لكل من كانوا حولي.. أظنهم لا زالوا يتحدثون عني وعن هروبي، غير ان واحد منهم فقط يعلم أني الآن اقف أمام البحر الازرق الممتد بلا نهاية وقد ركبته كطائر النورس احوم حول سرابه هناك حيث مغيب الشمس وهي ترخي بكل نيرانها الى جوفه لتطفيء اشتعالها حيث تسكن عالمها المؤقت، هكذا انا الآن في عالم مؤقت لا اعلم كم بقي لي من العمر لكني بالتأكيد سأعيشه دون رقيب يأمرني متى أتحرك او متى اتبول او متى يمكنني انا انام او استيقظ، إنه عالمي الذي اعشق الذي حلمت... ها انا يا صديقي قد حقتت حلمي والامل الذي قلت لي مرة انه أخطر ما يمكن ان يحلم به السجين، لكني امسكت بتلابيبه، طرقت بابه من خلال مخيلتي وعالمي فركبت موجة الخطر، وها انا القي بمرساةِ الى يم البحر الذي اعشق حيث مكاني الدافيء ودون ذاكرة.
القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى