إخلاص فرنسيس - القرنفل..

هاتي يدكِ قال، ولنرقصْ معَ الطيرِ
على زبدِ العمرِ
كلَّ مساءٍ وفي طريق العودةِ يحملُ بيده معولًا علاه الصدأ، وزهرةَ قرنفلٍ.
يمرّ ببابها، يلقي تحية خجولة، يترك لها الزهرة
في صحن يدها مع ابتسامة رقيقة، ويمضي في طريقه.
كانت بوابة الخروج والدخول بالنسبة له بوابة لدخول معبد ومحراب صلاة، وكان الصباح والمساء موعدًا غراميًّا لعاشق مع معشوقة سمراء، وكانت شمس الظهيرة مئذنة لقلبه الذي بلهفة غير عادية يطالبه لاستراق النظر، من خلف العديد من نصب الرخام المحفورة عليها أسماء وأسماء وتواريخ ميلاد ونهاية عمر ...
يجتاز كلّ مساء الكشك الخشبيّ الموازي لمكان عمله في مقبرة المدينة، أسمر، لوحته شمس ذلك الصيف الحارّ، مفتول العضلات هادئ القسمات، عميق اللحظ وكنز الشفتين تتكلمان كعينيه دون حروف، بابتسامة ودية، ورمش يجرح كسيف، عمله الاهتمام بحديقة المقابر، ري الأزهار وحفر القبور، تنظيف الرخام الأبيض وجمع أوراق الأشجار المتساقطة... قالوا في عينيه صمت كما القبر، لشدّة وطول الوقت الذي يقضيه هناك، ابتعد عنه لفيف من البشر لإيمانهم الخرافيّ بجلب النحس لكلّ من يتكلم معه، شابّ كيف انتهت به الأيام هنا؟ لا أدري، ولكنه هنا الآن، وهذا الأهمّ، جملة دارت في ذهنها مئات المرّات، صبية في العشرين غجرية الملامح رقيقة الابتسامة، وكأنّها استمدّت من الورود رقتها ودلالها ورونقها، وعينان مسافرتان في رحلة لا نهاية لها إلى عالم غير الذي تعاصره.
مثلها مثل باقي الناس لغز هو كان بالنسبة لها، والأكثر والأشدّ اندهاشًا زهرة القرنفل التي كان يتركها كلّ يوم لتنام في حضن يدها....
جمعت كلّ ما لديها من شجاعة يومًا، وصممت على السؤال وكان.
أبيع الورد والفلّ طوال النهار، وأنت تعود لي بزهرة كلّ مساء، أعرفها حين تستقرّ في يدي تهمس في أذني أنا عدت، لن تستطيعي التخلّص مني، من أنت، وما السرّ الكامن خلف هذا القرنفل؟
القرنفل كما كلّ الزهور قال له الكثير من المعاني التي تخاطب النفس والروح، أنت تبيعين القرنفل زينة أعراس وأفراح وزينة للقبور، أبيعها نعم قالت، ولكن لم يهدني يومًا أحد زهرة، أشبكها في شعري، أو أتزيّن بها كأيّ أنثى، وأنت تأتيني من بعد يوم طويل تقضيه مع الموتى وحفر القبور، تشبك في شعري زهرة قرنفل، وتمشي في سبيلك دون كلام، كما كأن الموت خطف منك اللسان، وهنا توقفت قليلا ما عساها تقول ورأت ذاتها مثل باقي البشر لا ترى فيه إلا الموت فقط ، ولا ترى الإنسان فتجفل لما دار في فكرها، وتصمت، أمّا هو فيبتسم، فلاحظت كم هو جميل عندما يبتسم، وكم تفيض تلك العيون بنهر من حياة جرفها، أين شبح الموت إذا، ولم الخوف كان يستولي على قلبها كلما رأته؟ والخشية تُربك يديها وهي تأخذ منه زهرة القرنفل، لا إراديًّا ودون أن تدرك وتشبكها في شعرها استجابة لصوت عميق يقول: ضعيها في شعرك كي تزدان من جمالك، وتنبثق منها الحياة، الحياة تقول: كيف تتكلم عن الحياة وأنت بين الموتى تقيم؟ وأنّى لك أن تبتسم، وكيف؟ وأنت ترى بأمّ العين أفواج البشر من النائحين والثكالى والنفوس الكليمة، كيف تعيش الموت كلّ يوم عشرات المرات…
دعيني أصحح لك المعلومة، استطرد قائلًا: أنا لا أقيم مع الأموات ولا بينهم بل أعيش الحياة في مقبرة، أولئك البشر الذين ترينهم يحاربون بأقسى ما لديهم يحاولون جاهدين أن يجملوا القبور بالزهور، وينفقون الغالي والرخيص على الألواح الرخامية من نقش وكلمات، إنّهم يخافون الموت، ويهابونه كثيرًا، لأنّهم لا يرون فيه إلا نهاية الأشياء أو نهاية الحياة. أراد أن يُكمل، ولكن حجبت الكلام عين الصبية التي اغرورقت بالدموع، سكت ممسكًا نفسه عنوة، وحمل رفشه، ومضى في طريقه ملقيا بالتفاتة وابتسامة كشفت خبايا قلبه، وتركت جزءًا منه بين يدي الصبية التي راحت تلاعب زهرة القرنفل الحمراء، وتداعب شقيقتها البيضاء من البارحة، وتعجّبت أنّ لون الزهور كان يختلف كلّ يوم، أرادت أن تسأله، ولكنّه كان قد اختفى عن أبصارها، انتظرت اليوم التالي بشغف، لتعرف حكاية الألوان وقصة الموت والحياة بين القبور، وكما عوّدها أتى حاملًا بيده زهرة قرنفل بيضاء، ألقى التحية بابتسامة تشعّ بنور غريب ، شكرًا قالت وزرعتها في شعرها، وسألته: ما رأيك؟ تلعثم، لم يستطع الإجابة، فاجأه السؤال الذي بدون موعد، لا يعرف بما يجيب، وبالمناسبة أردفت قبل أن ينطق بحرف، وهل الموت شيء سوى سادية النهاية؟ ما زلت أفكر بكلامك من يوم أمس. من لا يعرف الحبّ يكن الموت له سادية نهاية، ومن أدركه الحبّ أدرك أنّ الموت هو البداية.
ليس هناك أيّ شيء يعطي ثمرًا إن لم ندفنه في الأرض أولا. الزهور مثلًا أين جذورها، ومن أين تستقي الحياة؟ هي مدفونة تحت التراب، مختفية عن النور، تعمل في صمت، تمتصّ من التراب الغذاء، لتبث الحياة في القرنفل، الحبّ، نعم الحبّ يا صغيرتي، والقرنفل الأحمر هو الحبّ، والأبيض هو الطهارة، وأنت من الحبّ والطهارة موتٌ يتمنّاه الإنسان ليستيقظ، وتستيقظ الحياة في جنة عشقك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى