صديقة علي - س. ج

أشفقت على أمي، وهي تلطم خدّها باكية، كدت أن أبوح لها بالسرّ، لكن شيئا ما منعني.
ـ ياويلي إبني راح ...والمرحاض مسدود .
ـ تصبري قليلاً ...لا بدّ من حلّ.
ـ أيّ حلّ لقد دلقت به كلّ ما عندنا من ماء.
تركتني، واتجهت لبيت جارنا،لحقت بها. ..سمعتها تجادله :
ـ هي نقلة ماء ياجار ...أجلبها وأعيد لك الحمار.
ودون أن يرفع نظره إلينا، أجابها بخجل :
ـالحمار بالفلاحة ...آسفون
ـانتظر عودته
ـ لا تحرجينا أرجوك.
ثم رفع رأسه، لنرى وجهه الحانق ...بصراحة أخاف أن يلمحوا حمارنا عندكم وندخل في سين وجيم .
قلت له :
ـخائف على حمارك منهم ..
ـ خائف على أولادي ...أخوك يريد أن يصلح الكون ... ماذنب أولادي
ـلاتخف ..لن يسجنوا أولادك، ولا حمارك ...فأنتم لا شي‌ء،وأخي أراد ان يصلح حالكم..لا الكون.
ـاخرسي أيتها( المفعوصة ) ..ما بها حالنا نأكل ونشرب والحمد لله.
ـ هذه المفعوصة عقلها أكبر من عقلك وعقول أولادك ..قالت أمّي وهي تجرني بعنف من يدي ....لو كان أخوك هنا لحلّ المشكلة ... سامحه الله ،لطالما نصحته بالابتعاد عن رفاق السوء، فالعين لا تلاطم مخرزا.
قلت في سرّي، (لو كان أخي هنا ما وقعت المشكلة) .
شعرت بتأنيب الضمير، وأنا أراها، رغم أساها، تجلب الماء من نهر ،أسفل القرية. ببرميل تحمله على رأسها وتسرع إلى أبي العائد بظهر منحن ..مكسور النفس، فلم أره من قبل بهذا البؤس.
.تحلقنا حوله ننتظر منه جواباً يبرد قلوبنا
ـماذا قالوا لك؟
ـ قالوا سؤال وجواب ويعيدونه ...قالها بتردد يحاول أن يُطمئن أمّي الّتي لم تصدّقه .
ـ.والمرحاض من سيحل مشكلته
ـ كل الويل الذي نحن فيه وتكلّميني عن المرحاض
اتركيني بهمي.
كان المدرس يحرك شفتيه ...ويشير الى السبورة ....يرفع حاجبيه الكثين الأبيضين ...منفعلا بالشرح ...وانا أرى
اخي محشورا بدولاب، يتلقى ضرباتهم بكرباج معقوف .... .تعلو مياه المرحاض القذرة، حتى تصل الى ركبتيّ فأقفز من مقعدي ..
ـما بك ...عودي مكانك ...
عدت كالمسرنمة ثم أفقت على أنني وحيدة في مقعدي ، إلتفت خلفي، رأيت زميلتي تجلس بعيدة عني، ..تهرب بنظراتها مني .
خاطبها المدرّس :
ـ عودي إلى مقعدك ...
ـ أستاذ، هنا مرتاحة أكثر....
ـقلت لك عودي .
ـ اعذرني، أبي أوصاني بذلك، كي لا ندخل بسين وجيم .
رمقني الأستاذ بنظرة مشفقة ...كادت أن تخنقني ..بلعت الغصة ..وحملت كتبي، غادرت القاعة فلحق بي هامساً بحنو:
لا تلوميها، يا ابنتي سينهم سعير، وجيمهم جهنم ..رغم مافي مواساته من ألم لكنها أخمدت من ناري قليلاً، وعدت إلى البيت لأجد أمي تندب وأخواتي يجلسن بصمت ...اختلطت قطرات الماء ، من رأس أمي، مع عرقها ودموعها وهي تشتم كل من إلتقتهم :
ـالعمى ...ما أقل أصلهم ...حتى لم يردوا السلام ...لو جبروا بخاطري بكلمة عن إبني ...لو كان جاسوسا لما عاملوني هكذا
.تنظر بعيني وتسأل:
ـوالمرحاض لم يسلّك بعد..لماذا خصّتني بقضيته دونا عن أخواتي وأنا أصغرهن هل شكّت بشيء ؟؟
لا أظن، قد يكون اهتمامي بها هو ما دفعها لذلك ...عاد السر يضغط على شفتي، لكنني ابتلعته مجدداً.
شغلني ما حُملت به عن حزني على أخي.
كان أكبرنا ،يهتم لشؤوننا مهما كانت صغيرة.وكانت تربطني به علاقة مميزة، يخصني بكتب، يناقشني بما قرأت، يمتدحني أمام رفاقه ...حتى صديقه، أخذ يناديني بالرفيقة الصغيرة، والذي ناولني ذات صباح بضعة جرائد، علمت منه أنها محظورة، وعلي ان أُخبئّها حتى عن أخواتي .
ـ قولي لأخيك هذه أفكارنا، نحن يساريون ونحب هذا البلد ..ولسنا متطرفين
....،، .في تلك الأيام ،من ثمانينات القرن العشرين، كانت قريتنا تعج بالأحزاب والمخبرين، وكانت نقاشاتهم حادة،تصل أحيانا لحد التخوين . آنها غمرتني السعادة، فأنا كبرت، وأصبحت ذات شأن ، كي أؤتمن على سرّ الرجال ...لكن،كيف سأتدبّر أمر هذه المنشورات والجرائد والأفكار؟! كنت لازلت تحت تأثير الأمّ( بيلاجي) لغوركي.
(تحت فراشي، أفضل مكان ...ولن أقوم من سريري حتى يعود أخي من المدينة سأدّعي المرض ......)
كانت الليلة مقمرة ..انتصف الليل، يأكلني القلق ( ماذا لو اكتشف أبي فعلتي هذه ...) .تلبّسني الإحساس بالندم، كان عليّ رفض هذه المهمة ، (فليسلمه إياها حين يعود)،أقنعتني حجته بأنه لا يستطيع العودة بها ..لذلك قبلت ....لا بل حماسي من جعلني أقبل مع علمي بخصامهما.
...سمعت طرقات خفيفة. على باب غرفة الضيوف، ركضت الى النافذة الشرقية لغرفتنا، ثلاثة رجال ملثمين، يحملون بنادقهم في أكفهم وكأنها عصي ...ينادي أحدهم باسم أخي ...عدت كالبرق ،رفعت الفراش، لممت الجرائد، تأبطتها ،وقفزت من نافذة غربية تودي الى ممر ضيق، يفصل بيننا وبين حائط الجيران، وينتهي بمرحاض بابه ستارة قماشية عتيقة مثبتة بمسمارين ..
.سمعت أمّي تصرخ بهم:
ـ هو ليس هنا ...لن أسمح لكم بدخول غرفة البنات.
هدّأ أبي من روعها ...ثم بصوت خفيض ..قال لهم :أنا آخذكم إليه ...إبني لا دخل له بالسياسة .أنا متأكد من براءته.
ـ إذاً ... علينا تفتيش الغرف ...
كانت دارنا بلا سور، ثلاثة غرف مصفوفة بعريّها .بدأوا بغرفة الضيوف،
سمعت أنين الكتب وهي تتهاوى على الأرض ، لكنني مطمئنة، لأنّهم لن يجدوا فيها مايدين أخي .
أخواتي أفقن على صراخ أمّي، مذهولات خائفات، وزاد ذهولهن عودتي عبر النافذة بقدميّ المرتجفتين، وهنّ يجهلن أنني على عجل قد حشرت الأفكار بالمرحاض.



* مفعوصة: كلمة عامية تقال للصغيرة التي تحشر أنفها بشؤون الكبار


صديقة علي/سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى