إخلاص فرنسيس - السنجاب.. قصة قصيرة

كان صديقي كلما كنت أختنق من الجدران الملساء الشبيهة بجدران المقابر وصمتها الموحش كنت أهرب من صمتها وبرودتها إلى الغابة القريبة من منزلي. لم تكن جائحة كورونا إلّا لتضيف سأمًا على سأم ومن ضيق أضيق من المساحة التي امتلأت من زفيري الحاد، وارتطمت في سقف غرفة أحلامي التي حملتها معي، وكنت على وشك أن أحقّق بعضًا منها، ولكن فترة كورونا قضت على الهزيع الرابع منها، وأصبحت تلك الدمية المضحكة في العائلة.
أحاول أن أكون أكثر حيوية ممّن حولي، يجهلون حقيقتي، ولكن من يستطيع أن يفهم ما يجول في صدري؟
كان الصيف في أوائله، ويومًا بعد يوم يزداد غضبي ومللي، أمتنع عن أن أشارك ما في قلبي أمام أيّ شخص، كنت أتعذّب، ولكن ذلك أسهل من أن أبوح أو أشكو للبشر الذين ما إن يسمعوا قصة حتى يصبح صاحبها علكة في أفواههم يمضغونها ثمّ يبصقونها مرارًا وتكرارًا للتسلية والتضخيم، أو ربما هكذا كان يتراءى لي، ولكن هذا ليس من لا شيء حتى أصبحت وحدتي في وسط الجمع أمرًا عاديًّا.
توقّف تفكيري عن الاهتمام بالآخرين، وتقوقعت أكثر كلما سمعت ورأيت كم هم البشر أنانيون بل أشدّ أنانية من أيّ مخلوق آخر.
انطفأت صورة الحياة والدهشة لمعرفتهم، واستولى عليّ الصمت المريب. الغضب الساخر دفعني إلى الخروج إلى البرية، أهنأ في أحضانها.
احتضنت الغيوم البعيدة، وأحصيت النجوم ليلًا، أخاطب الشجر والحجر يصغي.
أجمع حولي باقات من الأعياد والأعشاب اليابسة أتأمّلها، بالأمس كانت خضراء وما إن علت الشمس، وارتفعت حرارتها حتى يبس العشب.
كنت أجلس ذلك الغروب بعد نهار شعرت أنّه لمن المستحيل أن أبقى داخل الجدران وأنا أشعر بعداوتها لي ، وبينما أنا أتفكّر في كلّ تلك الأمور شعرت بأنّ هناك عينًا تراقبني، وفجأة انتبهت إلى تلك العيون الصغيرة المدورة.
لم أتحرّك، وحبست أنفاسي نتبادل النظرات ، ربما يبحث هو عن شيء ما، وأنا أبحث عنه، ولكن لا نجرؤ على الحركة.
شعرت بحرارة تلك العيون ودفء الفراء، فأطلقت زفرة، أغمضت عيني وفتحتها من جديد لربما أحلم، ولكنّه كان أمامي حقيقة.
لقد اعتدت على عدم الدهشة من كلّ شيء، ولكن هنا أيقنت أنّ هناك شيئًا أدهشني حقًّا، عدت للمنزل وأنا أكثر ارتياحًا إلى يوم الغد، أنتظر كي أزور صديق الدهشة، وذلك المكان لأستشعر وجدان هذا المخلوق الصغير.
عدت راكضة في اليوم التالي، ولكن برز فجأة أمامي رجل يحمل بندقية صغيرة إلى جانب سور الحديقة المحاذية للممرّ حيث رأيت السنجاب يوم أمس.
نظر إليّ مشيرًا أن أقترب، وأنظر ، كان هو ذلك الفراء الصغير تحت قفص حديدي، أطبق عليه والرجل واقف فوقه خاليًا من المشاعر أو التعابير الإنسانية.
التفت نحوي، وقال: كنت أنتظره، لقد خرّب حديقتي، وها هو أخيرًا وقع في الفخّ. بدأ يستعرض أمامي ما زرع، ورحت أتوسّل أن يطلقه، وعين الصغير تتوسّل إليّ من بين الفراء الرمادي، ضحك الرجل، وصوب فوهة البندقية صوب الحيوان الصغير، أطلقت العنان لقدمي، وكتمت دمعة أسى في قلبي.
كان جليًّا أنّني لن أستطيع أن أغير رأيه، ومن غير المجدي التوسّل هنا.
ما الذي يعنيني من هذا الحيوان المفسد زرعي، دهشت من شفقتي عليه أو انقلبت المعادلة. عيناه المتّقدتان بالنصر على هذا المخلوق الضعيف قائلتان:
هذا المكان لي، وهذا المخلوق سيتلاشى في ترابه قريبًا. شعرت وكأنّ هزّة أرضية تحت أقدامي يتردّد صداها في الوادي القريب، حين أطلق عياره الناري. كان منظرًا بشعًا ومقيتًا، هزّتني تلك المشاعر، أعادتني إلى إنسانيتي، وما نفعها وأنا أضعف عن أن أقدّم على إنقاذ الصغير، وعيناه تلازمانني في أحلامي.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى