يسرى أبو العينين - الجلباب.. قصة قصيرة

ما إن دخلت الى حجرتها ، حتى تذكرت هذا النفق المظلم الذى كانوا يعودون منه وهم فى طريق العودة الى بيتهم ..
كانت ترتعب حين يعبر القطار المجرى ويهز فوقهم سقف وجدران النفق .. فى تلك اللحظة يصبح النفق أجمل مكان فى الدنيا .. يضغط على يدها ، يترك كفها ويلف خصرها بذراعه ، يهبط بذراعه وبكف يده يتحسس مؤخرتها .
أحيانا كان يترك يده فوقها ، وأحيانا كان يصعد بها إلى فوق ليتحسس ظهرها ، فتضحك وتقول اختشى إحنا فى الشارع .. يرفع ذراعه ويتركها فوق كتفها وبكفه يضم كتفها إلى تحت إبطه ، وما أن يخرجا من النفق ، يشربا السوبيا من عند بائع الخروب الذى على أول الشارع .

كان هذا قبل أن تأتى الأولاد .. تقول هذا وتتذكر الشعر الأسود على صدره ، وفتحة سرواله التحتانى التى تعمدت أن تقطع زرارها لتضحك من ارتباكه وهو يدارى نفسه فيما يده الأخرى تخلع الجلباب .. تتذكر هذا وتبتسم ..
تنام على جنبها وهى تضع رأسها على كف يدها ، صورته لا تبرح خيالها , تشرد عيونها فى الضوء الشحيح الباهت على الجدار المقابل ، وصوت ارتطام عربات القطار المجرى فوق النفق المظلم تدق فى رأسها ، فتستطعم طعم السوبيا على لسانها .

كانت هى فى مكانها هذا ، وكان هو نائما بجوارها ملتصقا بها ويده تلف خصرها .. لما أحس بالندهة الأخيرة لملاك الموت ، فز من نومــه وراح يجرى ناحية الباب وهناك سقط من طوله بعد أن علق كتف الجلباب بالمسمار الذى كانوا يستخدمونه كترباس لحجرة النوم .

أزاحت الغطاء الثقيل ورفعت رأسها .. سندتها على شباك السرير ، مدت يدها لأعلى و مسكت بكوب الماء الألمونيوم الموجود على أفريز الشباك المقفول الشيش والقزاز .. شربت وهى تفكر فى قِدْر الأرز وخمنت أن البنت الصغيرة ربما تركته مكشوفا قبل أن تنام .

ألقت بالساقين الثقيلتين الى أسفل و جاهدت لتمسك أى شيىء فى الهواء حتى تقف .. وضعت الساعد الأيمن فوق ركبتها اليمنى فبدت نصف محنية ، أطلقت الندهة المكتومة ووقفت ومن ثم راحت ببطء تخطو ناحية الباب الذى كان مواربا .

الفسحة مفروشة بالكليم الذى صنعته من أقاصيص الملابس القديمة .. ضوء مصباح الوناسه يتماوج مع نسمات الهواء الآتية من فتحة القزاز المكسور فى شباك الفسحة ، غرفة الأولاد مفتوحة ، أضاءت النور ووقفت بين السريرين .
لفت البنات بالبطانية .. أحكمــت الغطــاء حول الأولاد ، وراحت تطل فى ملامح الولد الصغير الذى كان صورة طبق الأصل من أبيه ، و الولد الصغير همس وهو مغمض العينين :
- عاوز أروح الحمّام

حملته ومضت به ، أنزلت بنطلون بيجامته وأجلسته على قاعدة الحمّام ..جلست أمامه مقرفصة ، نظر إليها وهو يخلط بسمتة الضعيفة بنعاسه الثقيل ، و ألقى بالقبلة الموجعة الى وجهها .. حين انتهى باسته .. حملته وقامت ، هدهدته فى حضنها ثم أنامته جنب أخيه .

جلست بين السريرين ، نظرت إلى السقف والجدران ثم خرجت بعينيها الى خارج غرفة الأولاد .. لمحت المشاية الصوف فى الطرقة التى تفضى إلى الفسحة .. تخيلت دبة رجليه الثقيلتين تمضى بين الغرف ، سمعته يستعجلها من الغرفة الأخرى .. إنحنت حتى زحفت فوق بطنها وغاصت أسفل السرير ..

جرت الكرتونة القديمة و قلبتها أمامها .. أمسكت بالبالطو الكاكى ووضعته جانبها .. شمّت الأفرول الأزرق ، طبقته وخلته فوق البالطو ، والحذاء البنى مسحته بطرف كُمها .. اصطدمت يديها بعلب دواء فارغة وروشتات أطباء ، ولمحت البطاقة العائلية التى إصفرت حوافها ، فتحتها .. كان اسمها فى خانة اسم الزوجه ، تمعنت فى صورته .. الشارب النحيل والشفة السفلى المدورة وعينيه العسليتين .. مدت يدها و أمسكت بالجلباب الأبيض الذى كان دائما ماينام به وكان القطع الطولى فوق الكتف ظاهرا تحت شعاع الضوء الشحيح ، ألقته فوق كتفها وقامت .

على حوض الحمّام ملأت الطست بالماء ودلقت مسحوق الغسيل ، قلبت الماء بيدها فطفت الرغاوى البيضاء .. غطست الجلباب وراحت تدعكه ، غطسته مرات ومرات وعى تدعكه ، ولم تنتبه أنها كانت تدعكه بقوة إلا بعد أن شعرت بوخز فى أكتافها .. عادت الى الغرفة وقفلت بابها بالمسمار ، نشرت الجلباب على شباك السرير .
سحبت الغطاء واستلقت على ظهرها .. تأملته واقفا أمامها شارعا بيديه ناحيتها .. سكنت للحظة فيما راحت تنصت لصوت قطرات الماء وهى تسقط مصطدمة بأرضية الغرفة البلاط .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى