فوز حمزة - على حافة العمر.. قصة قصيرة

نادتني موظفة البنك بعد ساعة من حضوري لأستلم المال الذي ما أن رأيته حتى غمرني شعور لم أعرف كيف أصفه .. لم تصدق عيناي ما تراه من رزم النقود بألوانها المبهرة .. لكن بعد لحظات أحسست بالأمان وكأني كنت أسير على الرمال فصرت راسخة على أرض صلبة ممتدة بلا نهاية.
خرجت من باب البنك احتضن الحقيبة بكلتا يدي كأنها طفلي وشعور بالخوف ينتابني خشية من وجود عصابة تسرقني أو لص يراقبني فيقع المحظور.
واصلت السير إلى نهاية الرصيف لانعطف داخل شارع فرعي كحركة تمويه مني ومن هناك أوقفت سيارة أجرة لأعود إلى منزلي الذي بدا لي تلك اللحظة كأنه جنتي على الأرض.
فتحت الباب لأطلب من ناديا تلك التي رأيتها أمامي في المرآة وكأني أراها لأول مرة غلق الباب و إسدال الستائر على النوافذ وكأنني على موعد غرامي مع حبيب لم أره منذ سنين ..
تفاجأت من غرابة تصرفاتي وهي تراني ألتف حول جسدي كراقصة .. لم أهتم حين نعتتني بالمجنونة في سرها..
نعم أنا مجنونة .. قلت ذلك وأنا أخرج لها لساني لأغيظها..
وقفت ناديا في إحدى زوايا الغرفة تخشى الاقتراب بينما أنا اخترت الجلوس على الطرف الآخر للسرير الذي يرقد عليه زوجي.
قالت لي بصوت تحاول فيه بث الاطمئنان داخلي بعد أن لمحت نظراتي له:
- لا تقلقي .. لم يحصل له مكروه في غيابك .. هاهو مثلما تركتيه .. جسد مشلول .. لا شيء يدل على أنه حي سوى تلك الأنفاس التي تدخل وتخرج.
لم أعر أي اهتمام لحديثها وبدلًا عن ذلك تعمدت وضع حقيبة النقود قرب يده المتخشبة التي فقدت القدرة على لمس أي شيء والتي كانت تشبه يد ميت.
التفت إليها أسألها:
- ليتني أعلم ما الذي يدور داخل رأسه هذه اللحظة !!
شعرت بها قريبة مني وهي تقول:
- ربما يسأل نفسه ذات السؤال !!
قلت له دون أن أنظر إليها:
- هل تعرف ما هي أرقام الحقيبة السرية؟ سأخبرك .. لن أكون غامضة كما كنت معي .. لقد تزوجنا في التاسع والعشرين من يناير .. هذه هي أرقام الحقيبة .. متأكدة أن هذا التاريخ لا يعني لك شيئًا .. لكنه بالنسبة لي أيام تناثرت مني وتجاعيد رسمها الزمن حول عيني وساعات سقطت من عمر الزمن.
صرخت ناديا في وجهي وكنت قد نسيت وجودها:
- أي لعينة أنتِ ؟! ليس هناك من داع لفعل كل هذا .. في النهاية أصبح المال في حوزتكِ.
- ها أنتِ قلتيها .. في النهاية .. لكن لا أحد يعرف كيف كانت حياتي معه قبل الوصول إلى النهاية ؟؟
بصوت مرتجف ردت وهي تقترب مني حتى كادت تدخل بي كما خرجت مني:
- ربما أنتِ محقة .. كم أكره ضعفي وترددي !!
في تلك اللحظة .. أطلقت ضحكة اخافتها فتراجعت ملتصقة بالحائط وهي توزع نظراتها بين المال وبين زوجي الذي لم يحتمل المنظر فأدار رقبته صوب الجهة الأخرى.
قلت لها بصوت فيه من التوسل أكثر من قدرتها على تجاهله:
- اقتربي .. لا تتورعي عن طلب أي شيء.
سألتني وهي تقلب الرزم بين يديها:
- ما الذي ستفعلينه بهذا المال ؟
نظرت إلى سقف الغرفة وجدرانها الذين شهدوا معي أيامًا لن تنسىى من القحط والحرمان .. قلت لها والحيرة تكاد تحكم سيطرتها علي:
- لا أدري .. أنه كثير يفوق ما أحلم به !! وأنتِ .. ماهي أحلامك بعد أن أصبح المال بحوزتك ؟
- ربما لم أعد أملك أحلامًا بشأنه !!
- قلت لها بحماس طفولي لأبعد عنها شبح اليأس الذي اعتلى ملامحها :
- ما رأيك في السفر؟
- فكرة عظيمة !!
- لكن ليس قبل شهر.
- ولمَ بعد شهر ؟!
التفت إليه أحاول أن أسمعه صوتي:
- هناك حقائب أخرى من المال .. موظفة البنك طلبت مني الانتظار شهرًا آخر ليجهزوا لي الباقي .. تخيلي يا ناديا هذا المال الذي حرمت منه سنين طوال يعود لي وقد بلغ أشده.
رمت من يدها رزمة النقود وسارت خطوات باتجاهه .. قالت له وهي تميل بجسدها عليه حتى لامس ثدياها وجهه:
- هل أحزنك حديثها .. إنها قاسية فعلًا .. لقد جردتها هذه الأوراق من الرحمة.
قلت لها بعد أن أفرغت الحقيبة مما فيها قرب أقدامه:
- عن أية رحمة تتحدثين !! دعكِ منه .. لا تخدعكِ دموعه وأخبريني ما الذي تتمنين فعله بهذه النقود .. لا تبالِ .. أنها كثيرة وهناك المزيد ... المزيد ...
- لا تكوني متحجرة القلب .. لقد أخذتِ ماله وكفى .. افعلي ما يحلو لك دون الإمعان في تعذيبه.
- أنت يا ناديا من تقولين ذلك؟! أنت الوحيدة التي شهدت على ظلمه لي .. هذا الرجل كان يعد علي كؤوس الماء التي أشربها .. بل لو استطاع لعد علي أنفاسي .. لا حاجة لتذكيرك بكل ذلك ...
صرخت بي:
- أرجوكِ كفى .. أي لعنة يسلطها المال علينا ؟!
قلت لها وأنا أنظر إليها في المرآة:
- أنها لعنة من يعاني العطش ونبع الماء يحرسه الوحش .. لكن هاهو الوحش يرقد عاجزًا مشلولاً.
- كفى !!
- سأخبرك سرًا .. لا أتمنى له الموت بل العذاب وهو يرى ما حرص على جمعه قد صار كله تحت أمري ... بل تحت قدمي .. لا حرمان بعد اليوم ... سأقتني من المجوهرات ما كنت أراه على رقبة الفنانات وسيدات الأعمال .. سأحقق حلمي في شراء سيارة .. سارتاد مطاعم المدينة كلها.. لن أختبىء خلف ملابسي حينما أذهب مع صديقاتي كما السابق ..
تركت المرآة لتقترب منه بخطوات بطيئة و بحنان وهي تمرر أصابع يدها داخل خصلات شعره همست بأذنه:
- لا تصدق كلمة مما تتفوه به هذه المجنونة.
- هاا .. حقًا .. نسيتِ كل ما فعله بنا ؟
وكأنها لم تسمعني حين دست حبة دواء في فمه لتراقبه يغط بعدها في نوم عميق.
أما أنا أو هي .. لا أدري من منا توجهت صوب المرايا تحتضن رزم المال تتبسم للأخرى.
حين التفت لم أشاهد سوى زوجي المشلول وأنفاسه ملئت هواء الغرفة برائحة الدواء بعد أن كانت ممتلئة برائحة بخله ..
عدت أنظر في المرآة فلم أرَ سوى ناديا واحدة ..
أما ناديا الأمس فقد خرجت وبقيت أنا ناديا التي خلقت الآن .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى