إدريس على بابكر - مريومة في بلاد الكنغر.. قصة قصيرة

كانت مغامرةً مجهولة، قد نجوتُ منها بعد أن كِدتُ أن أدفع حياتي ثمنًا. بعد معاناةٍ طويلةٍ وشاقة مرَرْتُ خلالها بِعدَّة بلدان وعبرتُ المحيط بسفينة الموت، أخيرًا حطَّت قدماي على هذه البقعة الجغرافية من العالم، مرَّت السنوات بِحُلوِها ومُرِّها، تعلَّمتُ لغتهم لكن لستُ أضاهي أهلها في نطقها، لم أستطع أن أتخلَّى عن ثقافتي وعاداتي التي تشرَّبتُ بها أو أن تذوب هويَّتي في عُمقِ ضجيج هذه المدينة. نِلتُ في هذه البلاد المعطاءة جنسيَّتها، ثم صِرتُ مواطنًا كأهلها أساويهم الحقوقَ والواجبات، القانونُ يسري على الجميع، فهو كالقطار إذ يسري على قضيب السكة الحديدية بلا انحراف. برغم هذا الإنصاف لا يزال قلبي وعقلي معلَّقان بوطني، لم تهزني أيَّةُ عاطفةٍ في ترديد نشيدهم الوطني أو تشغلني دعايات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، من يفوز ومن يخسر، بينما حين أسمع نشيد بلاديَ الأم أعيش مع كل كلمة بصادق الإحساس، يخفقُ قلبي وروحي فتنهمر عيناي بالدموع، فرغم بُعدي عن أهلي أتابع في الوسائط المتعددة خيباتهم وأحلامهم لحظةً بلحظةٍ أكثر من أخبار البلد الذي يحتويني. الآن بلغتُ من العمر منتصف الأربعين ولم أتزوَّج بعد، لم يستهويني عشقُ فتياتهم الجميلات المتمرِّدات، فالمرأة هنا تقف مع الرجل كتفًا بكتفٍ، قدمًا بقدم، لا تُملى عليها الوصايا، تتقاسم معك كلَّ شيء، لا تستطيع أن تنتزع حقًا فرضَتْهُ لنفسها، فهي كائنةٌ مستقلةٌ بذاتها تملكُ روح الطموح والإرادة والرغبة؛ لم يكن لدي دافع الارتباط بفتاةٍ من هذا البلد، اكتفيتُ بالعلاقات العابرة، كثيرٌ من أصدقائي الذين تزوَّجوا هنا دخلوا في صراعاتٍ ثقافية وحضارية مع زوجاتهم الأجنبيات، وما خُفِيَ أعظم من المشاهد على أرض الواقع. أما أنا رجلٌ تقليدي؛ لذا قرَّرتُ السفر إلى بلدي لكي أجلب عروسًا وديعةً ومُطيعة، لا تبارحني كظلي ولا تعترض على قرارتي أو يتعالى صوتُها علي أو تفكَّر بأن تضعني في مصيدة ما. مهما بلغتُ من فوضى المشاعر قبل الزواج أحبُّ أن أكون زوجًا مُحترمًا ومسؤولًا لا يعرف الخيانة.
قبل عودتي كانت هناك وشايا بين أمي وأخواتي أنَّهن اخترن لي عروسًا، وهي بنت خالتي التي تُدعى «محاسن»، سمعتُ تلميحاتِ حديثِهن ولكن لم أرد عليهن بالرفض أو القبول؛ إذ لا أعرف عنها شيئًا، فالزواج في بلدي كبطِّيخةٍ مقفولة إما تَخيب أو تُصيب، لقد رأيتُ وجهها في عديدٍ من الصور، لكن الصورة لا تُعطِي الحقيقة كاملة، كثيرٌ من أصدقائي وقعوا في هذه الورطة، وبصراحة لم ترُق لي نحافتها؛ قلبي يميل إلى الفتيات ممتلئات الأبدان.
عُدتُ إلى وطني، وكأنَّ عقارب الساعة قد تراجعت إلى الوراء أيامًا، دفعني الشوق أن أمشي على حواف الذكريات القديمة، تلاطمني أمواج الحنين إلى ماضي الطفولة، ما زالت ترنُّ في أذني تِلكُمُ الأصوات الجميلة من أمهاتنا وآبائنا: (يا ود تعال من الشارع)، بعد كل هذه السنين من الغياب لم أشعر بشيء قد تغيَّر؛ فالحياة بفقرها كما هي في السابق، لا أعرف من أبكي، وطني أم الذين رحلوا من هذه الدنيا.
قَطَفتِ الغربة زهرة شبابي، أنا الآن في منتصف الأربعين وسيزُفُّونني عريسًا في إجازتي، امتلأ بيتنا القديم بالصبايا الجميلات كفراشات الحقل، محاسنُ تزهو فرِحَةً وسْطَهُن تشعر أنَّها ملكةٌ اقتربَ موعد تتويجها، نظراتي تهوم على عيونهن، إحدى بنات الحارة كانت منقبة، تلصَّصتُ النظر في وجهها، وعندما سقط عنها النقاب رأيتُها بنظرةٍ خاطفة كالقمر احتجب خلف الغيوم، أسرتني ثم بادلتها الحبَّ بغلاف المجاملات.
فاجأتها مرةً بمكالمة تليفونية، طلبتُ منها أن نتقابل، في ذلك المساء الخريفي الجميل استأذنتُ من ضيوفي، ذهبتُ إليها سرًّا عند العنوان، جلستُ على الطاولة فلم أجدها، أصبحت أطقطق أصابعي في قلقٍ وأحيانًا أداعب شاربي. أخيرًا حضرَتْ بعد ربع ساعة من الميعاد، خُيِّلَ إليَّ أنَّها تعمَّدت ذلك، فالأنثى تظهر في اللقاء الأول بكبرياء وأنَّها المُهمَّة وأنت المهتمُّ بها. بعد التحايا تأسَّفَتْ على التأخير، كنتُ متلهِّفًا لأرى وجه المنقبة التي قد سحرتني بلمحةٍ خاطفة، كانت تتحدث معي بكل ثقةٍ في حين قد كنتُ متوترًا بعض الشيء لهذه المغامرة، طلبتُ منها أن تكشف عن وجهها قبل أن نرتشف العصير الطازج، وما أن كشفت عن وجهها يا لدهشتي! أصبحتُ معلَّقًا بين الجلوس والوقوف، يا الله على الجمالِ الأخَّاذ، والعينين الواسعتين، والابتسامةِ الساحرة.. فتاةٌ تشتهيها كل قصائد الشعراء، وأكثر ما أثار دهشتي أنَّها بكامل زينتها كالفتيات غير المتحجبات، لم أحب أسألها عن سبب ارتدائها النقاب، أهو عن قناعة أم أنَّها مجبورةٌ بتقاليدٍ مجتمعية!.. صوتٌ شجيٌّ يسري إلى داخلي بلا استئذان، تبدو أصغرَ منِّي بعشرين عامًا أو ما يزيد، ربما لو تزوَّجتُ مُبكِّرًا لكانت بناتي في دور سِنِّها ولكني قلتُ في نفسي أنَّ الحبَّ لا يعرفُ فارق الأعمار؛ العمرُ مُجرَّدُ رقم. أصبحتُ ألتقيها باستمرار، لقد اصطادتني الصغيرة كما تصطاد الصنارة السمكة؛ طلبتُ يدها للزواج وكان هذا القرار بالنسبة لمحاسن صدمةً عاطفيَّةً كبيرة، تغيَّر مساري عنها، فاجأتُ الجميع.
تمَّت مراسم زواجي على خير، ثم بعد شهورٍ لحقتني مريومة إلى بلاد الكنغر، زوجةٌ وديعةٌ مطيعة (الغنماية تاكل عشاها). مرَّت السنون ولم أنجب منها، أقنعت نفسي بأنَّ كلَّ شيءٍ قسمة ونصيب. هي مشغولةٌ بالتحصيل الأكاديمي والعمل بنهَمٍ وبحيويَّة الشباب، منذ مجيئها إلى هنا تخلَّت عن النقاب بإرادتها ولكن يبدو أنَّ الحجاب يزحف في منحنى السقوط. بعد مدة اكثشفتُ أنَّها تتعمَّد عدم الإنجاب مني، إذ وجدتُ حبوبَ منع الحمل في حقيبتها صدفةً، منذ ذلك اليوم تعرَّت الحقيقة، أدركتُ أنَّنِي عندها درجٌ لتسلُّقِ أحلامها الشاهقة، لو كنت في بلدي لتزوجتُ عليها أخرى وألجمتُ هذا التمرد وعاشت مقهورةً طول عمرها ولكن..
تغيَّرت مئةً وثمانين درجة، صارت تتحدَّثُ معي ندًّا لندٍّ وأحيانًا تتجاهلني كزوج، تستفزُّ حماقاتي قدر الإمكان، تحاول أن تجُرَّني إلى المستنقع، حاولتُ ألَّا أفقد أعصابي وقت الغضب، لا يخرج من صوتي إلا عتابٌ أو لوم، بيتنا الصغير أضحى رقعةً من جحيم. تجرَّأت ذا يومٍ وأتت بشخصٍ غريب إلى المنزل، شابٌّ وسيمٌ من قارة آسيا في سِنِّها، زعمت أنَّه صديقها بالعمل، ساعتها شعرتُ بأنَّ الموقف جرح كرامتي وأنَّها قد أهانت رجولتي، وقعتُ عليها بالضرب والركل بجنونٍ هستيري حتى هرب الشاب، كانت النتيجة كسرٌ في السبابة وبعضُ الخدوش ورعاف، أفرغتُ كل ما في جوفي من انتقام، جاءت الشرطة وأخذتني إلى الحِراسة بينما أُخِذت هي إلى المشفى، أظنُّ أنَّ الشاب قد بلَّغ عني.
اشتكتني مريومة في المحكمة وطلبت مني الطلاق، نالت ما أرادت، لقد كَسِبَت القضية.. دافَعَتْ عنها محامِيَّةٌ متطوعةٌ تتبع لمنظمةٍ ضِدَّ العُنفِ الأُسَرِيّ، حاولتُ الدفاع عن تصرُّفاتي الحمقاء بأنِّي إنسانٌ أتى من بيئةٍ جافةِ المشاعر تُؤمِن بالضرب في الحياة الزوجية، حاولتُ أن أجد لنفسي المبررات ولكن هيهات لم يُنصفني القانون.
بعد خروجي من السجن شعرتُ بمرارة الفقد، لقد طارت مريومة على جناح أحلامها، ووصل بِيَ الحالُ نهاية الإفلاس الأخلاقي، وحيدٌ أتذوَّقُ طعم الأسى، ما عُدتُ أراها مرَّةً أخرى فقط أسمع أخبارها في بعض الأحيان من بعيد. أجلس مساء كل يوم في مقعدي المعتاد في البار، أحتسي الخمرة بلذة، هي أصدقُ من كلِّ النساء، حين يدُبُّ دبيبُها في موطِنِ أسراري تُجاوِبني بكل صراحة، فأحتسي المزيد.. أنِّي في هذه البلد لستُ سِوى مُجرَّد لاجِئ وإن ساويتُهم في الحقوق.
في إحدى لياليَّ البائسة بعد خروجي من البار كنتُ أتسكَّع في الطرقات، حدَّقتُ أمامي، من على البعيد رأيتُ عاشقين يسيران بانسجامٍ متشابِكي الأيدي، وضعتُ يداي على رأسي فاغرًا فمي، يا إلهي لقد عرفتها من خصرها المُضمَر وأكتافها، إنَّها مريومة! انكشف شعرُ رأسها المجلود مثل غجريَّةٍ يونانية، لقد جارت آخر صيحات الموضة، وضع العاشق يده على محيط خصرها ودون أن أشعر أطلقت عندها صرخةً داوية، التفتا إليّ، كان هو نفسُ الشابِّ الذي أتى إلى منزلي ذلك اليوم، رشقوني بابتساماتٍ غامضةٍ في وجهي الباكي ومضيا في طريقهما. لقد حطَّمَتْ حياتي وسرقَتْ كلَّ أحلامي، عليك اللعنة يا مريومة.

إدريس على بابكر

[HEADING=3][/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى