سعيد رفيع - ملتوتة.. قصة قصيرة

عندما رأيت القبرين لأول مرة لم تكن المقارنة لصالح أبي ، كان القبر المجاور محاطا بسياج مستطيل من الرخام شاهق البياض ، وكان الفراغ الرملي المحصور بين اضلاع المستطيل مرصعا بنباتات الصبار وأزهاره الصفراء الجميلة ، وفي وسط السياج تماما كان ينتصب شاهد مزخرف نقش عليه اسم المتوفي بخط انيق، أما قبر أبي فقد كان مجرد كومة مرتفعة من الرمال تتناثر فوقها بضعة احجار من الجير الأبيض .
نخرج في غبشة الصباح ، أمي تحمل سلتها ، وتدب فوق التلال الصخرية ، وأنا من خلفها اتشبث بملاءتها السوداء الباهتة ، وأرقب في هلع رؤوس الأحجار الحادة ، ثم نهبط بحذر فوق الصخور الزلقة حتى نبلغ الوادي المنبسط ، فنجوس في الرمال ، ونرنو بأبصارنا إلى الأفق البعيد ، فتتراءى لنا القبور كجمال باركة في قلب الصحراء ، وفي الطريق إليها نمر بأبراج البترول الصدئة ، وحولها برك من السائل الأسود تلصف في ضوء الشمس ، فتحكم أمي قبضتها على معصمي ، ولكني افلح في اطلاق سراحي ، وانطلق اتقافز من أمامها وخلفها ، وهي لا تكف عن مناداتي وتحذيري .
كانت أمي تفترش الأرض ، وأمامها سلة الخوص التي تحوي بضعة ارغفة من الخبز الشمسي ، وكنت انكمش بجوارها اتطلع إلى المقابر ، واختلس النظر إلى عينيها المبللتين بالدمع ، ثم اتساءل عن السبب الذي دعى أبي إلى ترك البيت ليسكن الرمال ، واستغرب ان يختار ابي هذا القبر الكالح دونا عن بقية القبور التي تنتصب فوقها شواهد أنيقة مزخرفة ، ولكني اقلعت عن التساؤل بعد أن اخبرتني امي ان قبر أبي يبدوا كالحا في الظاهر فقط ، ولكن أسفل الرمال هناك حدائق غناء وازهار جميلة .
فور ان تفرغ امي من قراءة الفاتحة ، كانت تدس اصابعها في صدرها لتخرج صورة أبي ، المغلفة ببقايا كيس بلاستيكي شفاف ، فتتطلع إليها ، ثم تقبلها خلسة وتعيدها إلى صدرها ، وبعد ذلك تشرع في تقطيع كل رغيف إلى أربعة أجزاء متساوية لتوزعها على الأطفال المتسولين بين المقابر ، وكان أكثر ما يكدر صفوها كثرة الزوار للقبر المجاور ، إذ كانت تعتقد انهم يزعجون الموتى بجلبتهم وثرثراتهم الفارغة ، وكانت امي تنفر على وجه الخصوص من أمرأة متأنقة اعتادت ان تأتي إلى المقبرة بسيارة جيب زرقاء ، تهبط منها ، ويتبعها عدد من الخدم يحمل احدهم مقعدا وآخر مظلة ، ويحمل الباقون عدة سلال .. برتقال .. خيار .. بلح ناشف .. ملتوت .
كانت المرأة فارعة الطول ، ذات وجه مستدير ناصع البياض وشفاه مكتنزة شديدة الحمرة ، وكانت تأتي في الغالب في عباءة مزركشة من القطيفة ، وتستر رأسها بطرحة من الحرير الأسود ، تتدلى منها خصلة شعر معقوصة على جبهتها ، وكان طرف الطرحة ينسدل دائما على صدرها ، ولكن عندما تطيره الريح كنت المح نحرها البض يزينه كردان ذهبي كبير ، وكانت المرأة سمينة ومتورمة الساقين ، وأن دأبت على إخفاء تورم ساقيها بجورب أسود طويل ، وعلى خلاف المرأة كانت امي قصيرة وضامرة ، كما كانت بشرتها في لون النخالة ، ووجهها يموج بالظلال والنتوءات ، ولكن عينى أمي كانتا اجمل بكثير من عيني المرأة ، وكانت امي تدرك ذلك وتحرص على تكحيلهما قبل كل زيارة لقبر أبي ، بل أن امي كانت تحرص على ألا تتطلع إلى صورة أبي ألا بعد أن تتكحل ، وكنت اسمعها تمازح النسوة قائلة ان المرحوم كان يعشق عينيها وكان يعشق "هذا" ، تقولها ثم تشير إلى وشم اخضر على شكل مخرطة يزين جبهتها .
ورغم حداثتي لم يغب عني نفور امي من المرأة السمينة ، إذ كانت تحدجها بنظراتها في صمت ، دون ان تحاول أن تتجاذب معها الحديث ، على عكس دأب النسوة في المقابر ، مرة واحدة فقط بادرتها بالتحية "عوافي " .. فردت المرأة : "الله يعافيك" ، وفيما عدا ذلك كانت أمي تتعمد تجاهلها ، وكانت تنظر بكثير من الأستهجان إلى خدم المرأة الذين يطأون القبر بإقدامهم وهم يسقون الصبار ويغسلون الشاهد المزخرف بالماء والصابون ، أما أنا فقد كنت التصق بأمي طوال الوقت ، منهمكا في التطلع إلى سلال المرأة السمينة ، وبصفة خاصة سلة الملتوت الذي كانت رائحته تخترق أنفي .
وكان محترفو تلاوة القرآن يتهربون من أمي ، ويتحلقون المرأة السمينة وحدها ، التي كانت تأمرهم جميعا بتلاوة القرآن متتابعين ، ثم تدس في ايديهم أوراق النقد ، وعندما يبسطون أطراف جلابيبهم تكبش من السلال وتلقى إليهم بالفاكهة واقراص الملتوت ، ولم تجد أمي من يتلو القرأن فوق قبر أبي سوى شيخ ضرير تقوده طفلة في عمرى ، وكان الشيخ قد ضل طريقه الينا فنادته أمي : "تعال يا مولانا خد البركة" ، فتربع الشيخ بجوار القبر ، وبعد أن انهى تلاوته لبعض قصار السور شكرته أمي ، ووضعت بين يديه رغيفا كاملا ، فتحسسه بأصابعه ، ثم ناوله للطفلة ، ونهض ليقف بالقرب من المرأة السمينة ، التي طلبت منه ان ينتظر دوره في تلاوة القرآن .
وعندما لاحظت المرأة السمينة أنني اطيل النظر إلى سلالها ، لوحت لي بملتوتة كبيرة ، فغمرتني الفرحة وهرعت لتناولها ، ولكن أمي جذبتنى من جلبابي ثم قالت للمرأة وهي تغتصب ابتسامة : "شكرا .. خير ربنا كثير والواد شبعان ملتوت" ، فشعرت بمرارة في حلقى ، واستغربت ان تعمد امي إلى حرماني من ملتوتة مجانية دونما سبب ظاهر ، كما صدمنى ان أسمعها تكذب بهذه البساطة ، وهي التي اعتادت ان تكويني بالنار على ظاهر يدي ان فعلت ، ولكن حالما عدنا إلى البيت أشترت لي ملتوتة كبيرة ، أقبلت على التهامها بنهم ، وبعد ان اتيت عليها احتوتني بذراعيها ، ثم همست لي ألا أعاود التطلع إلى سلال المرأة السمينة ، فوعدتها بذلك ، ولكن في زيارتنا التالية للمقابر ضبطتنى أختلس النظر إلى سلال المرأة ، فزجرتني ، وأمرتني أن أوليها ظهري ، ففعلت ، ودأبت على ذلك مكرها لبضعة زيارات لاحقة .
أمي الآن شبه ضريرة وفي اواخر العمر ، ولكنها لم تنقطع عن زيارة قبر أبي ، ولا تزال تحرص على أن تتكحل قبل كل زيارة للقبر ، الذي اصبح بفعل الزمن اكثر انخفاضا ، حتى كاد ان يتساوى بالأرض ، وتدحرجت بعض احجاره لتستقر فوق القبر المجاور ، الذي تبدل حاله أيضا ، بعد أن انقطع زواره منذ زمن بعيد ، فتهدم سياجه الرخامي ، وتدحرجت كتل منه لتستقر فوق قبر أبي .
ولأن الشاهد المزخرف تهدم أيضا .. فقد اصبح القبران متشابهين تماما .. كومتان واطئتان من الرمال .. تختلط فوقهما احجار الجير وكتل الرخام الضارب إلى الصفرة .. وتحيط بهما حلقات متتابعة من القبور المتشابهة .. ومع ذلك فإن امي لا تزال تميز قبر أبي .. حتى بعد أن اوشكت ان تفقد بصرها .. إذ تزعم انها تشم عبير الأزهار أسفل الرمال .




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى