منصور الصُويّم - ساق تاج الدين الطويل

القصة التالية حقيقية، قصها عليّ بنفسه صديقي، تاج الدين الطويل، في واحدة من لقاءاتنا التي أخذت تتكرر أخيرا في مقهى الشعلة، بعد أن قابلته هناك مصادفة قبل ستة أشهر تقريبا، وقتها بدا لي ضئيلا ومتلاشيا رغم طوله الفارع وجسده الرياضي الرشيق، بيد أن ما لفتني إليه تلك الوحدة الباردة التي أبصرتها تحيط به وتطوقه، فأنا نفسي كنت أعاني في تلك الأوقات من عزلة ووحدة قاتلتين، وبالكاد أحاول قسر نفسي على الانسجام مع هذه المدينة الساحلية بعد أن جئت إليها منقولا من مدينتي البعيدة في وسط البلاد لأعمل بأحد مصانع تجميع السيارات. عرفت أنه مثلي غريب، وعرفت أنه مثلي بحاجة إلى غريب آخر ليحكي له ويؤانسه ويشاركه الهموم.
قصة الطويل بدت لي حين رواها معقدة قليلا ولا تخلو من غربة نفسية ماحقة أكثر من أي شيء آخر، لكن، اتضح لي مع الأيام أنه كان صادقا تماما، لاسيما في ذلك الجزء المتعلق بسكان المدينة المترفين الذين يبدون دائما وكأنهم في سباق مع الزمن، رغم أن لا شيء ينتظرهم، فالجميع بلا فرز ليس لهم عمل حقيقي يمارسونه، فهم يعتمدون تماما على الموظفين والعمال المستجلبين من خارج المدينة ليديروا مصانعهم وشركاتهم، بينما يديرون هم سياراتهم ودراجات أبنائهم في مطاردات عبثية داخل شوارع المدينة غالبا تنتهي بموت أحدهم.
في البداية، قال صديقي تاج الدين الطويل، إنه أحس بنقلة حضارية كبرى تحدث له، فها هو ينتقل فجأة من زيت وتراب المصنع "المتخلف" في مدينته البعيدة، إلى هذه المدينة الساحلية البهية، ذات الشوارع الإسفلتية اللامعة، والعمارات السامقة، والسيارات الفاخرة من كل طراز، والمنتجعات الساحرة على ضفاف البحر، ومطاعم الأسماك والمشويات ذات الأصناف العالمية، ثم هذه المصانع الضخمة المزودة بأحدث التقنيات الحديثة.. كل شيء أوحى إليه أنه انتقل بالفعل من قاع التخلف العفن إلى أفق الحضارة المنير.. هذا كان خلال تلك الأيام السبعة التي تركته فيها المؤسسة يسوح حرا في أرجاء المدينة متحسسا ملامحها.
نفس التجربة واجهتني بالطبع، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، لدرجة أنني كدت أقفز إلى البحر منتحرا لولا كلاب الحراسة التي كانت تتبعني في كل مكان حتى داخل غرفة نومي؛ وهي كلاب حقيقية، ما بين ثلاثة إلى أربعة، يهبك لها صاحب العمل – أو المؤسسة أو المصنع، بدعوى مؤانسة الوحشة، وخنق الوحدة؛ لكن مهمتها الحقيقية مراقبتك ومنعك من محاولة الهرب أو الانتحار أو التغيب عن العمل، أو التفكير في الاختلاط بالآخرين من سكان المدينة، فحدودك هي الغرباء مثلك، وأثناء العمل فقط.
هذا ما واجه صديقي حتى أوشك أن يجن، فعمد يوما إلى تخدير الكلاب وحبسها داخل السكن والخروج منطلقا. ذكر لي أن أول ما رغب فيه لحظتها هو زجاجة خمر حتى يغيب عن الواقع المرعب الذي يضغطه بين تروس ساعات العمل المتصلة في المصنع وسجن غرفة السكن المحاطة بكلاب المؤانسة؛ هذا رغم أنه لم يسكر من قبل قط، فالوقت كل الوقت للعمل والإنتاج وتقبل لوم وتقريع أصحاب المصنع الكسالى حين يأتون لاستلام (الإنتاج).
المهم ذكر صاحبنا أنه ذهب إلى مقهى سمع أن مالكه يبيع خمرا مستوردا ومعتقا، ووجد هناك مجموعة كبيرة من أبناء المدينة يتبادلون الأنخاب ويحملون قواريرهم ضاجين متحركين صوب الشوارع، وحين اقترب من بائع الخمر وتقدم بطلبه حدق نحوه الرجل مصدوما قبل أن يمسك بهاتفه ويتصل بالشرطة: "آلو هناك آلي يبدو أنه يعاني من حالة فصام إلكتروني حاد".
قال صديقي تاج الدين الطويل: "لولا ساقي الطويلتين هاتين لكنت الآن حبيسا في السجن مثل تلك الكلاب الغبية". قال هذا ومدّ نحوي ساقا معدنية تبرق من تحت البنطال.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى