أحمد غانم عبد الجليل - إطـلالـة الغياب

وقفتُ جامداً أمامه لدى وصوله وأنا ألعب مع أصدقائي في الشارع قرب الدار حتى صرخ في وجهي، يؤكد حضوره بهيئته التي تزداد بعداً عن ذاكرتي خلال كل فترة أبدأ اعتياد حياتي دون وجوده فيها، انسقتُ وراء خطاه العسكرية إلى الداخل مطأطئاً الرأس.
يهصر أمي إليه بقوة، كفاه تمسحان ظهرها وخصرها، بالكاد أبعدت وجهها عن أنفاسه، سمعتُ همسها، تنبهه إلى ذهولي خلفه، يمنعني عن الإتيان بكلمة أو حركة. أعرف أن الأيام التي سيمضيها في بيتنا ستنتزع حريتي ومرحي، وأحضان أمي مني، ولن ألقى منه سوى التجهم والانتقاد الصارخ لأقل ما يصدر عني من إزعاج يقلق راحته، تأتي أخيراً، متفادية الرد على اتهامه لها بتدليلي، لتهدئ من مخاوفي قبل خلودي للنوم المتقطِع بصوت فتح وإغلاق باب الحمام الملاصق لغرفتي.
اختلاؤه بها في فراشٍ واحد يستفز فضولي، ينهكني، ويلقيني إلى وحشة العزلة، والغيرة أيضاً، أكثر من الأخيلة التي يتصيَّدها جسدي المقبل على دنياه الجديدة من هنا وهناك، سلسلة زوابع من الإثارة تحوم في فضاء الظلام، قبل أن تغيِّبها غفوة أخرى لا تطول.
في الصباح وجدتها في المطبخ تعد الإفطار، بحركةٍ رشيقة ووجه يشرق نضارة، بينما يظل هو غارقاً في تخوم النوم حتى العصر، سألتها عن سبب انزعاجه المستمر مني في انكسارٍ وخجل بعد تأتأة تردد تحتار في صياغة سؤالي، بل جمع تساؤلاتي في سؤال، تنتقل الحيرة إلى نظرات عينيها، تكتسيان فجأة بغمامة حزن تعقد لساني وتجمدني في انتظار إجابة، ترتبك كلماتها المقتضبة فلا تفضي إلى فهمٍ يبدد هواجسي، أختزن غيظي وغضبي منهما معاً، في المساء قد يطغى صوته على صوت التلفاز الذي يجلس أمامه لساعات.
وقفتُ أتسَمع شجاره مع والدتي من خلف باب غرفتي المغلق، أرتعد خوفاً من أن تجتاحني حرائق حربه، فلا أعرف أين أختبئ أو سبيلي للهرب، تصد غضبه بغضبٍ منفلت عن صبرها، تثور على غلاظة الصحراء والبراري المتسربة داخله، ركضتُ إلى السرير، صممتُ أذنيَّ باللحاف وجلدات الزعيق تتوغل في صدري، أدرك النوم ارتجافي بسرعة وأنا أدعو أن يغادر ولا يعود أبداً.
أيقظني بصوتٍ خافت حنون مع بزوغ ضياء الفجر، الظلمة الشفيفة ترسم ظلاً يكلل وجهه بشحوبٍ قاتم، قبَّل وجنتيّ وجبيني، تضخمت في مسمعي كلماتٍ بددت كل حنقٍ لديَّ، لففت ذراعيّ حول رقبته، ضمني إلى صدره، توَسلت إليه ألا يغادر، تنهد طويلاً، وخنقت العبرة كلماتٍ أخرى استنطقتها عنه مراتٍ ومرات لكنها ظلت عاجزة عن سبر سره.
من ضمن حلمٍ كان أم يقظة مباغتة بين غفوتين؟
اختفى والدي، لم يعد إلى جبهات الموت ثانيةً، وظل يقين الإجابة سبِية تقتادها سنوات الغياب المتمادية في جُنح المجهول.


أحمد غانم عبد الجليل
29 ـ 5 ـ 2016 عَمان





وقفتُ جامداً أمامه لدى وصوله وأنا ألعب مع أصدقائي في الشارع قرب الدار حتى صرخ في وجهي، يؤكد حضوره بهيئته التي تزداد بعداً عن ذاكرتي خلال كل فترة أبدأ اعتياد حياتي دون وجوده فيها، انسقتُ وراء خطاه العسكرية إلى الداخل مطأطئاً الرأس.
يهصر أمي إليه بقوة، كفاه تمسحان ظهرها وخصرها، بالكاد أبعدت وجهها عن أنفاسه، سمعتُ همسها، تنبهه إلى ذهولي خلفه، يمنعني عن الإتيان بكلمة أو حركة. أعرف أن الأيام التي سيمضيها في بيتنا ستنتزع حريتي ومرحي، وأحضان أمي مني، ولن ألقى منه سوى التجهم والانتقاد الصارخ لأقل ما يصدر عني من إزعاج يقلق راحته، تأتي أخيراً، متفادية الرد على اتهامه لها بتدليلي، لتهدئ من مخاوفي قبل خلودي للنوم المتقطِع بصوت فتح وإغلاق باب الحمام الملاصق لغرفتي.
اختلاؤه بها في فراشٍ واحد يستفز فضولي، ينهكني، ويلقيني إلى وحشة العزلة، والغيرة أيضاً، أكثر من الأخيلة التي يتصيَّدها جسدي المقبل على دنياه الجديدة من هنا وهناك، سلسلة زوابع من الإثارة تحوم في فضاء الظلام، قبل أن تغيِّبها غفوة أخرى لا تطول.
في الصباح وجدتها في المطبخ تعد الإفطار، بحركةٍ رشيقة ووجه يشرق نضارة، بينما يظل هو غارقاً في تخوم النوم حتى العصر، سألتها عن سبب انزعاجه المستمر مني في انكسارٍ وخجل بعد تأتأة تردد تحتار في صياغة سؤالي، بل جمع تساؤلاتي في سؤال، تنتقل الحيرة إلى نظرات عينيها، تكتسيان فجأة بغمامة حزن تعقد لساني وتجمدني في انتظار إجابة، ترتبك كلماتها المقتضبة فلا تفضي إلى فهمٍ يبدد هواجسي، أختزن غيظي وغضبي منهما معاً، في المساء قد يطغى صوته على صوت التلفاز الذي يجلس أمامه لساعات.
وقفتُ أتسَمع شجاره مع والدتي من خلف باب غرفتي المغلق، أرتعد خوفاً من أن تجتاحني حرائق حربه، فلا أعرف أين أختبئ أو سبيلي للهرب، تصد غضبه بغضبٍ منفلت عن صبرها، تثور على غلاظة الصحراء والبراري المتسربة داخله، ركضتُ إلى السرير، صممتُ أذنيَّ باللحاف وجلدات الزعيق تتوغل في صدري، أدرك النوم ارتجافي بسرعة وأنا أدعو أن يغادر ولا يعود أبداً.
أيقظني بصوتٍ خافت حنون مع بزوغ ضياء الفجر، الظلمة الشفيفة ترسم ظلاً يكلل وجهه بشحوبٍ قاتم، قبَّل وجنتيّ وجبيني، تضخمت في مسمعي كلماتٍ بددت كل حنقٍ لديَّ، لففت ذراعيّ حول رقبته، ضمني إلى صدره، توَسلت إليه ألا يغادر، تنهد طويلاً، وخنقت العبرة كلماتٍ أخرى استنطقتها عنه مراتٍ ومرات لكنها ظلت عاجزة عن سبر سره.
من ضمن حلمٍ كان أم يقظة مباغتة بين غفوتين؟
اختفى والدي، لم يعد إلى جبهات الموت ثانيةً، وظل يقين الإجابة سبِية تقتادها سنوات الغياب المتمادية في جُنح المجهول.

.............................
29 ـ 5 ـ 2016 عَمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى