مقتطف د. محمد الهادي الطاهري - يوميات قائم بأعمال ربة البيت (10)

(10)

غادرت الأستاذة ليلى صديقتها ربة بيتنا المصون وتركت وراءها أحاديث كثيرة بعضها خفيف لطيف وبعضها الآخر فيه ما فيه من الهرج والمرج. قالت زوجتي: فضحتنا يا رجل. أهكذا تقدم القهوة؟ كأنك لم تستضف أحدا من قبل. قلت مداعبا: ألم يقل الشاعر (يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا / نحن الضيوف وأنت رب المنزل) المراد منه أن يتصرف صاحب المنزل بتلقائية وعفوية دون مجاملات. قمة الفرح بالضيف أن تسقط جميع البروتوكلات. أنا مثلا أشرب قهوتي كل صباح في فنجان بلا صينية ولا كوب ماء. وأنت أيضا. وكذلك الأبناء. وغدا ستأتي الأستاذة ليلى وسنكون نحن ضيوفها هنا في هذا المنزل. قالت: ألا تعتقد أنها عزمت على ذلك لتريك معنى أن يكون الضيف ضيفا. ؟ قلت: تأويل بعيد. صحيح الأستاذة ليلى أستاذة عربية وتفهم العبارة والإشارة ولكن لا تنسىي أنها مثلنا نحن لا تقيم وزنا كبيرا لعقد الحضارة وقشورها. ومن الغد جاءت السيدة ليلى محملة بكل ما لذ وطاب. لن أحدثكم عما أعدت وعما ملأت به طاولة الغداء. تخيلوا ما شئتم تجدوه هناك. والأغرب من ذلك أنها وضعت كل شيء في موضعه وودعتنا على أمل العودة قريبا. قلت شاكرا: نعم نلتقي قريبا لكن لا تحملي نفسك ما لا طاقة لك به. قالت: اطمئن. ولكنها عادت فزارت صديقتها وجلست إليها طويلا ثم عرضت عليها فكرة الخروج إلى أحد المقاهي. رأيتهما تمشيان بإيقاع واحد تقريبا. الأستاذة ليلى تساعد الأستاذة روضة وتحثها على المشي. بخطى ثقيلة نعم ولكنها كانت خطى ثابتة. ثم رأيتها تفتح باب سيارتها وتساعد ربة البيت الأصيلة على الدخول ثم على الجلوس. ثم رأيتها تجلس وراء المقود وتشير إلي إشارة السلام وهي تقول: سأعيدها لك قبل الغروب.. في الليل حدثتني ربة بيتنا عن ساعة أو أزيد منها في مقهى (دير لاند) وعن نجاتها من عثرة كادت توقعها أرضا لولا فطنة صديقتها. لقد كانت زيارة هذه الصديقة دافعا قويا لزوجتي لاستئناف حياتها العادية بأقل قدر ممكن من الشكوى وبأمل أكبر في المستقبل. ولكنها مع ذلك كانت زيارة قد ألحقت ضررا فادحا بالسيد محسن ومطعمه. لقد غبت عنه يومين أو ثلاثة أيام. عدت إليه فقال مرحبا متسائلا: أين غبت يا رجل؟ قلت ممازحا: ألا تريد لربة بيتنا أن تشفى من مرضها وأن تسترجع سلطتها لتدير أعمالها في البيت بنفسها؟ يضحك السيد محسن ضحكته الباهتة ويستأنف عمله ثم يسألني :ماذا أعدّ لكم؟ قلت: لا شيء. لقد جئت فقط لأعيد إليك الأواني التي أخذتها منك آخر مرة، وأشكرك على خدماتك الجليلة. يتقبل السيد محسن الخبر ببرودة مبالغ فيها ثم يدعو لنا بالسلامة.
لقد كان طعام الأستاذة ليلى في الحقيقة قادحا أعادنا إلى أجواء افتقدناها منذ أسبوعين أو أكثر، ودفعنا إلى استئناف الطبخ بأيدينا هنا في منزلنا دون الحاجة إلى أكلات الشوارع. صحيح أن طعام السوق أطيب كما يقال ولكن التجربة أثبتت أنه لم يكن أطيب حقا. كان يبدو أطيب لأنه كسر العادة. فإذا صار هو نفسه عادة فقد ميزته. بل إن الاعتياد عليه يورث الملل بخلاف الاعتياد على طعام المنزل. لذلك قررنا أن نتشارك في إعداد غدائنا وعشائنا وتقاسمنا المهام، تجلس ربة البيت على كرسي في المطبخ وتشير على رب الأسرة بما يجب أن يفعله. وما هي إلا ساعة أو أزيد منها بقليل حتى يكون الطعام جاهزا. وبدت لي التجربة أشبه بتجربة التربص البيداغوجي، مرشد يوجه ويساعد ومدرس مبتدئ يحاول تحويل معارفه النظرية إلى ممارسات. وما هي إلا حصتان أو ثلاث حتى اكتسبت مهارات لم تكن لي من قبل. أما آداب الضيافة وبروتوكولاتها فلا نحتاج فيها إلى تربص. يكفي أن نلعب الدور وأن نقيم المسافة بين الحقيقة والمجاز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى