سعيد رفيع - الحرجل...

كان الشيخ يجوب الوادي بحثا عن زهرة الحرجل التي تشفي كل أوجاع البطن. كان ينحني إلى الأرض في مواقع يعرفها جيدا، ويغرس أصابعه الدقيقة في الرمال، فينزع النبتة من جذورها بمهارة أثمرها طول المراس، ثم يلقيها في الزكيبة المدلاة فوق ظهره وقد انحسر ثوبه القصير فكشف عن ساقيه النحيلتين.
في عصر هذا اليوم كان الجو شديد البرودة، وكانت زخات المطر المتساقطة تدغدغ حبات الرمال، فتنتشي لها النباتات المشوقة إلى السقيا، كانت الريح الباردة تلفح وجهه المتغصن، وتضرب ساقيه العاريتين، فلا يكف عن التجوال جيئة وذهابا، كنحلة نشيطة، بحثا عن النبتة السرية.
وفجأة تناهى إلى سمعه ضجيج يأتي من الطريق الواقعة عند نهاية الوادي، فأنزل الزكيبة، وأسرع يعتلي الجبل، وبحذر ثعلب عجوز أطل برأسه يستطلع الأمر، رأى طابورا من المركبات الحربية، تنهب الأرض في طريقها إلى المشرق، بصق في اتجاهها، وهو يشتم : اليهود يرحلون عليهم اللعنة، ودون أن يدري، إمتدت أصابعه لتقطف حبات الحنظل وتلقيها في اتجاه المركبات ، لعلها تتفجر فتدمي قلوبهم بالمرارة.
ولكن ما هذا؟ صاح الشيخ ذاهلا .. مركبة تخرج عن الطابور، تتوقف، يفتح بابها، وينسل منها رجل يرتدي جلبابا أزرق، عرك عينيه ثم زحف عدة أمتار في اتجاه المركبات مستترا بأعشاب العاقول، وراخ يمعن النظر، وندت عنه صرخة حاول كبتها حتى لا تفضحه، إنه سالم ذلك الوغد الخائن.
لقد كانت خيانة سالم محل شكه الدائم، وها هو الشك يتحول إلى يقين "الموت لك يا سالم" قالها وهو يبصق مرة أخرى في اتجاه المركبات ولكن فجأة تنطلق رصاصات متتابعة، من نفس المركبة، ويسقط سالم مضرحا بالدماء.
كادت الدهشة أن تفتك بالشيخ، فتقهقر زاحفا من حيث أتى، واندس بين شجر الأثل، وظل في مكمنه حتى هبط الليل وانحسر الضجيج، فانسل مستترا بغلالة الظلام وعبر الطريق في اتجاه القرية، متحصنا بخبرته الطويلة بالشعاب والدروب.
وفي الصباح .. خرج الشيخ قاصدا الوادي، ولما مر بسفح الجبل لم يكن للرعاة سوى حديث واحد. الذئاب التهمت البارحة رجلا مجهول الهوية، كل ما تخلف عنه بقايا جلباب أزرق.
أصغى الشيخ لحديث الرعاة، فانفرجت عنه ابتسامة كبيرة، ثم أخذ نفسا عميقا ملأ رئتيه بالهواء النقي، وهرع في اتجاه الوادي وهو يمني نفسه بالرزق الوفير، وقد هبت من خلف الجبل نسمة رقيقة أخذت تعبث بثوبه وتداعب أزهار الحرجل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى