عبدالجبار الحمدي - السقا.. مات

ألقمني والدي المهنة البائسة التي كسرت ظهره وظهر حماره.. هذا ما أخبرنيه عنها
كانت مهنة والده من قبله، يفخر بها كأنه أورثه مهمة السقايا والرفادة ببطن مكة... فيقول: نشأت بين زريبة لحمار وعلف نتن، أزحف على أرض خشنة يغطي رؤوسنا سقف من بعض قطع بلاستيكية، هواءنا يختلف عن هواء بقية البشر فبيتنا... دعني أضحك طويلا عندما اذكر لأحد ما كلمة بيتنا الذي يخلو من كل شيئ إلا الماء والغريب!! أن من يسمعني يقول يا بختك فالماء هو الحياة كأننا نعيش على شرب الماء فقط، اما رغيف الخبز الحار فنادرا ما نتذوقه ربما في عيد نسي نفسه لما مر بنا.. الثياب رثة بالية مثل ثيابي وامي وابي، كثيرا ما احتضنته صغيرا رغم رائحته والعرق متناسيا رفقته للحمار، كنت أخشى عليه في بعض الاحيان انه قد أصيب بلوثة من معاشرته إياه أكثر من معاشرتنا، بات عصبيا يصرخ كثيرا على أتفه الأسباب لا لشيء إلا ليصب جام غضب حظه علينا وعلى حالة البؤس التي لم تتغير، ورثت كل ذلك عنه بعد ان دب الطاعون بين الازقة الفقيرة وبيوت الصفيح والعشوائيات تاركا البيوت الفارهة والقصور خلف ظهره، ماتا وبقيت أنا، فموت الفقراء طبيعة القدر، كأنه ميثاق من الله، حتى الانبياء إرسلوا للفقراء لإنقاذهم من عبودية الاثرياء دون ان يمسسهم بسوء الى حين، ربما جننت عندما اقول ان الاغنياء لهم الخيرة في دخول الاسلام او نكث العهد، اما الفقير فلا مناص من الموافقة هربا من قيد عبودية الى قيد اسلام بشكل عبودية أخرى، إن الخالق اعلم بمخلوقاته، هذا ما قاله لي مرة المعلم سرحان الذي يكريني لجلب الماء له كل نهار، بت اجعله آخر بيت في مسيرتي اليومية كي اسمعه بعد ان اسأله هواجسي الكثيرة التي تقطن العتمة، أما هو فيجدني المتنفس لخلاياه التي لا يمكن ان يجعلها تتكاثر إلا في وحدته معي بعيد عن نبذه لفكرة الظلم التي يعاني منها، يبدأ من الولادة فغالبا ما يقول: إن الإنسان لا يختار والديه فالخيار هنا مفقود أساسا، لذا من الصعب ان يختار ان يكون فقيرا مثلك يا صاحب السقا، فلو خيروك لَما اخترت ان تكون فقيرا متقع الفقر، دأبك كدأب هذا الحيوان جريرته أنه بلا عقل يعتاش على سليقة الغريزة فبرغم من كل ما يفعله من جهد وعمل لا يثاب إلا بعلف نتن او بقايا فضلات وهذا ما تفعله انت، تجوب الازقة تدخل بيوتات تتمناها بين يديك، لكنك لا تجني سوى أفلاس حتى تطعم فمك الفاغر جوعا الى تذوق فاكهة ما أو استطعام لحمة، حتى القطط افضل من حالك، هاهي هناك انظر تتحين الفرصة للإنقضاض على فريسة كي تشبع بطنها إن الدنيا يا صاحب السقا تؤخذ غلابا.. الجوع يا صاحب السقا كافر ولا يزيدك إلا ضعفا وخبالا.
أعود بعدها الى زريبتي مثل حماري الذي أخذ يحرك رأسه كثيرا ويهز ذيله، ظننت انه يطرد الذباب في اول وهلة لكني وبعد معاشرته أدركت أنه يرفض حياته رفضا قاطعا حينما استوقفني أمره برفضه الأكل والشرب، كأنه أعتصم رافضا واقعه الذي عاشه طويلا بلا تفكير او عقل بدون تغيير، هزل حتى صار جلد على عظم، حزنت كثيرا فدونه حياتي ستكون اصعب...
مات السقا وبقيت أنا صاحبه وحيدا حزينا يا لخبلني!!! طوال فترة حياتي كنت أظن أني أنا السقا إبن السقا لكن ما ان مات حماري حتى أدركت حقيقة الأمر هو السقا لا أنا، فهو الذي يحملني ويحمل قرب الماء هو يعرف الطريق ومكان البيوتات أكثر مني، هو من يتحمل الضيم والضرب ساعات غضب دون ان يرد علي، حقا أني حمار... لا حاشاه أن اكون مثله إني من البشر أنقص درجة عن الحمار، على الأقل ذكره الله في القرآن فقط كون الانسان عندما يتحيون يكون صوته كصوت الحمير... يا اللغرابة!!! إنسان يشبه الحيوان في نهيقه يا لك من مخلوق دنيء هكذا يقولها المعلم سرحان الذي لا تلج افكاره من سم الخياط، تلك عبارة استاذه الذي ساق له ان يأخذها عنه، وها انا أنهل من حديثه الكثير، صرت اكره ان اكون صاحب سقا أريد ان اكون إنسانا لكن كيف؟ وقد دب الفقر كالنمل على جسدي، لم اجد أي وسيلة لتغيير حالي سوى واحدة تلك التي تشري نفسك الى من يدفع أكثر، فعالم الغاب أزلي الطوفان فعندما كان أُمِر آدم ان يأخذ من الحيوانات من كل زوجين أثنين أما البشر عدا أهله فإلى الجحيم إذن كما يقول المعلم سرحان، البشر جميعهم الى زوال قبل كل المخلوقات فهو أي المخلوق النزق الذي يرتدي وجه الله كي يكون ربا على العالمين، ضاربا بعرض الجدار كل القيم الإنسانية، خاصة تلك التي تتعارض مع مصالحة، فحتى الله يراه عدوا له متى ما طغى وتجبر الامثال كثيرة النمرود، فرعون، طالوت وجالوت، قارون والسامري الذي بصر بما لم يبصر غيره دون أن يعلم أي أحد ما الذي بصر به السامري دون غيره؟ كما أن من الامثله الكثير اوردها الخالق على ان الوجود للعبادة فقط لكن الإنسان آدم الكون الذي سجدت له الملائكة إلا ابليس ذلك المارق الخارج عن الطاعة بإذن ربه ان يكون واعظا لسلاطين البشر يدلهم على الربوبية والعنت، رهان يثبت أن هذا المخلوق آدم ليس حفيا بأن تسجد له الملائكة... العالم ينشد الدمار والخراب لعنة أصابها آدم وابل من سجيل نزل يخسف بكل أحلامه التي اغوي بها نزعة ليكون خالدا، رغبة وغريزة جهل طرد بعدها من الجنة، يا لخيبته صاح طالبا العفو بعد خطيئة كان لزاما على البشرية ان تدفع ثمنها، ثمن خطيئة وثمن جريمة قتل لم تكن سوى غاية بعيدة المدى هو السبب فيها لا تنتهي إلا بالصيحة الكبرى، بنو آدم فُطِموا على القتل وحفر قبور مثل الغربان، اسكنوا أنفسهم الصحاري بعد ان جادلوا الخالق عبر انبياء ورسل، لم يقنعوا بالربوبية له، شرعوا بولادات ارباب حاطوا بها الفقراء، نفس الفقراء الذيي أنا من صنفهم... كنا قوم في بطن جاهلية نأكل الحرام ونستبيح الفساد نقتل نسبي بحجة قبائل وشعوب، نقطع الطريق بحجة الفروسية، نمنع المعروف في سبيل إزدهار و وجاهة سقاية ورفادة أزلية، أقنعة أديان ورفقة مع يهود ركبوا موجة الصحراء حبا في امتلاك خيرات عرب الجاهلية، ماذا اردد عنك يا معلم سرحان؟؟ صرت مثل الببغاء همي ترديد كل ما تقوله دون ان أغير من حالي! ماذا سيكون مصيري بعد موت السقا؟ أراني يا قدر لا اعصر خمرا بل أوزع الخبز الذي افتقد من طبق على رأسي في زمن الصوم عبادة وإن كان للفقير قسرا، فكثير من الفقراء يصومون عنوة لعدم وجود ما يأكلونه يا لسخرية القدر!!! سأخرج صارخا ان السقا مات بعد أن عاد السامري والنمرود وفرعون ارباب جدد أصحاب أنا ربكم الأعلى برايات سود.

القاص والكاتب
عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى