وهو يعد قهوة المساء، استنشق رائحتها بنشوة، تبادر إلى ذهنه تساؤل غريب سمعه في مسلسل عربي وظل يرن في أذنيه: هل للشيخوخة رائحة؟! غاص في وجدانه عميقا.
صب القهوة في فنجانه المفضل، جلس على مقعد طاولة المطبخ، عند الرشفة الأولى بيد مرتعشة، تقاطرت عليه هذه التساؤلات:
هل ستكون رائحة شيخوختي هي ذاكرتي المثقلة بالماضي والشبيهة برائحة كتاب قديم يغطيه تراب الزمن؟! أم رائحة حكيي التاريخ لأحفادي غير المبالين به وبي، مثل رائحة عطر يتسرب في المكان والزمان دون أن ندري من أين ينبعث؟ أم رائحة الذكريات التي تجمعت على خطوط تجاعيد وجهي، كرائحة الندى الذي يزين وينعش أوراق زهور الخريف في فجر كل يوم جديد من أيام شيخوختي؟
صمت، نظر إلى فنجان قهوته، حرك يده ببطء، أخذ الفنجان، رشف رشفة طويلة، وضع الفنجان على الطاولة. خرجت تنهيدة مريرة من أعماقه:
قد تكون رائحة شيخوختي هي رائحة حزن مثل رائحة قاعات الانتظار بالمستشفيات، أو رائحة حكمة مثل رائحة بخور العنبر بضريح سيدي بليوط. قد تكون رائحة كل خيبات العمر كرائحة صعود حموضة المعدة المؤلمة. أو رائحة الاعتراف كرائحة الريحان عند أول مضغة للعلكة المنعشة للفم. قد تكون رائحة التفكر والتأمل تفوح كرائحة نسيم عابر في صباح صيفي هادئ. أورائحة جمال خافت كرائحة فتيلة قنديل اقترب انطفاءه.
حول نظره إلى النافذة لما سمع صوت أطفال الحي يلعبون كرة القدم في الشارع، ابتسم، واصل التأمل في تساؤل هل للشيخوخة رائحة؟! "
قد تكون هي تلك القوة لاستقبال ما تبقى من العمر ببصيرة أوسع، كرائحة المسك الذي أهدته لي زوجتي قبل رحيلها بسويعات. إنها رائحة محبتها لي ، رائحة طهيها المنسم بالزنجبيل والحبق والزعفران... ورائحة ضفائرها المعطرة بالقرنفل والحناء والياسمين، رائحة حكيها عند كل مساء عند عودتي إلى البيت، حكي منسم برائحة شاي منعنع.
تذكر شاي زوجته التي لم تكن تحب رائحة القهوة ، فلم يشربها طيلة حياتها .ارتشف رشفة أخرى من فجانه قائلا بصوت خافت:
ربما قد تكون رائحة شيخوختي هي رائحة كل الأشياء التي قمت بها وأنا راضي عليها كرائحة الجلد الذي صنعت منه حقائب كثيرة ومختلفة ، أو رائحة الأشياء التي لم أكن راضيا عليها كرائحة أرض انكسرت عليها بيضة ولم تنظف لأيام طويلة. أو قد تكون رائحة الأشياء التي تمنيت أن أقوم بها ولم أفعل كرائحة شجرة اللوز البعيدة عني التي لم أزرها . قد تكون رائحة الأمل الذي لم يتخلى عني يوما كرائحة البحر.
رشف رشفة أخرى من فنجانه، ارتفعت أصوات الأطفال في الشارع، بعضهم متحمسين لعبا وآخرون مشجعين تصفيقا وتصفيرا.. ثم فجأة أطبق صمت، لم يعد يسمع صراخ الأطفال. همس لنفسه :
قد تكون رائحة الشيخوخة كرائحة اختفاء الضجيج، هي رائحة الصمت قبل توقف الحياة، تشبه رائحة آخر قطرة بنزين سيارة مهترئة وانتهى موديلها.
قد تكون رائحة الارتياح والرضى كرائحة الورد في مزهرية تزين المكان قبل أن تذبل وتموت، قد تكون رائحة البساطة بعد أن تعبت من تعقيدات الحياة كرائحة نكهة الفستق في أول كأس مثلجات أكلته في حياتي، قد تكون في رائحة تفاصيل صغيرة أصبحت للفراغ الذي أعيشه أنتبه إليها، مثل ابتسامة حفيدي الصغير، لمسة صديق لم أره منذ زمن بعيد، كالاستمتاع بأغنية العيطة التي لم أتذوقها وأنا على عجلة من أمر شبابي.
قد تكون رائحة الاطمئنان والفرح كرائحة طاجين يمزج بين الحلاوة والملوحة.
سكت متأملا في فنجانه الفارغ، قد أنهى شرب القهوة، فتغيرت رائحة القهوة برائحة أخرى لم يستطع تلمسها، قال:
يبدو أن هذه هي رائحة الشيخوخة، رائحة الاستعداد للوداع والرحيل ممزوجة برائحة الحياة بكل تفاصيلها المفرحة والمحزنة التي بصمت عمري. إنها رائحة آخر فصل من فصول الحياة.. لكنها بدون شك ليست النهاية، بل هي رائحة بداية فصل آخر في مكان آخر وزمن غير زمن هذه الدنيا، رائحة مثل التي تنبعث من الأزهار ولا ندري أي رياح أو نسيم عليل أوصلها إلى أنوفنا، هي رائحة عطر يتسلل إلى الهواء من تربة عشب بعد المطر. هي رائحة مشاعر نعيشها ولا نتمكن من وصفها..
ظل صامتا لا يدري كم من الوقت، رن جرس الباب، نهض ببطء، بخطوات ثقيلة، فتح الباب، وجد جارته الحاجة خديجة، المتقاعدة والتي تعيش وحدها منذ سنين بعد رحيل زوجها:
- صباح الخير الحاجة، مرحبا كيف حالك؟
- نقول الحمدلله، ماذا بك ؟ تأخرت في فتح الباب، قد قلقت عليك.
- لقد كنت أبحث عن رائحة الشيخوخة. قال وقد علت ضحكاته.
نظرت إليه الجارة باستغراب.
- لا تهتمي الحاجة لهلوساتي، هيا ادخلي، تشربين معي القهوة، فأنا لم أتناول بعد فنجان الصباح.
لم تعلق الحاجة على كلامه ، لقد اعتادت على خلطه الصباحات بالمساءات، و هي متأكدة من أنه قد شرب قهوته الصباحية والمسائية كذلك .
يبدو أنه نسي أن للشيخوخة كذلك رائحة مرض النسيان الذي يشبه رائحة معطرات الجو المضرة بالصحة.
صب القهوة في فنجانه المفضل، جلس على مقعد طاولة المطبخ، عند الرشفة الأولى بيد مرتعشة، تقاطرت عليه هذه التساؤلات:
هل ستكون رائحة شيخوختي هي ذاكرتي المثقلة بالماضي والشبيهة برائحة كتاب قديم يغطيه تراب الزمن؟! أم رائحة حكيي التاريخ لأحفادي غير المبالين به وبي، مثل رائحة عطر يتسرب في المكان والزمان دون أن ندري من أين ينبعث؟ أم رائحة الذكريات التي تجمعت على خطوط تجاعيد وجهي، كرائحة الندى الذي يزين وينعش أوراق زهور الخريف في فجر كل يوم جديد من أيام شيخوختي؟
صمت، نظر إلى فنجان قهوته، حرك يده ببطء، أخذ الفنجان، رشف رشفة طويلة، وضع الفنجان على الطاولة. خرجت تنهيدة مريرة من أعماقه:
قد تكون رائحة شيخوختي هي رائحة حزن مثل رائحة قاعات الانتظار بالمستشفيات، أو رائحة حكمة مثل رائحة بخور العنبر بضريح سيدي بليوط. قد تكون رائحة كل خيبات العمر كرائحة صعود حموضة المعدة المؤلمة. أو رائحة الاعتراف كرائحة الريحان عند أول مضغة للعلكة المنعشة للفم. قد تكون رائحة التفكر والتأمل تفوح كرائحة نسيم عابر في صباح صيفي هادئ. أورائحة جمال خافت كرائحة فتيلة قنديل اقترب انطفاءه.
حول نظره إلى النافذة لما سمع صوت أطفال الحي يلعبون كرة القدم في الشارع، ابتسم، واصل التأمل في تساؤل هل للشيخوخة رائحة؟! "
قد تكون هي تلك القوة لاستقبال ما تبقى من العمر ببصيرة أوسع، كرائحة المسك الذي أهدته لي زوجتي قبل رحيلها بسويعات. إنها رائحة محبتها لي ، رائحة طهيها المنسم بالزنجبيل والحبق والزعفران... ورائحة ضفائرها المعطرة بالقرنفل والحناء والياسمين، رائحة حكيها عند كل مساء عند عودتي إلى البيت، حكي منسم برائحة شاي منعنع.
تذكر شاي زوجته التي لم تكن تحب رائحة القهوة ، فلم يشربها طيلة حياتها .ارتشف رشفة أخرى من فجانه قائلا بصوت خافت:
ربما قد تكون رائحة شيخوختي هي رائحة كل الأشياء التي قمت بها وأنا راضي عليها كرائحة الجلد الذي صنعت منه حقائب كثيرة ومختلفة ، أو رائحة الأشياء التي لم أكن راضيا عليها كرائحة أرض انكسرت عليها بيضة ولم تنظف لأيام طويلة. أو قد تكون رائحة الأشياء التي تمنيت أن أقوم بها ولم أفعل كرائحة شجرة اللوز البعيدة عني التي لم أزرها . قد تكون رائحة الأمل الذي لم يتخلى عني يوما كرائحة البحر.
رشف رشفة أخرى من فنجانه، ارتفعت أصوات الأطفال في الشارع، بعضهم متحمسين لعبا وآخرون مشجعين تصفيقا وتصفيرا.. ثم فجأة أطبق صمت، لم يعد يسمع صراخ الأطفال. همس لنفسه :
قد تكون رائحة الشيخوخة كرائحة اختفاء الضجيج، هي رائحة الصمت قبل توقف الحياة، تشبه رائحة آخر قطرة بنزين سيارة مهترئة وانتهى موديلها.
قد تكون رائحة الارتياح والرضى كرائحة الورد في مزهرية تزين المكان قبل أن تذبل وتموت، قد تكون رائحة البساطة بعد أن تعبت من تعقيدات الحياة كرائحة نكهة الفستق في أول كأس مثلجات أكلته في حياتي، قد تكون في رائحة تفاصيل صغيرة أصبحت للفراغ الذي أعيشه أنتبه إليها، مثل ابتسامة حفيدي الصغير، لمسة صديق لم أره منذ زمن بعيد، كالاستمتاع بأغنية العيطة التي لم أتذوقها وأنا على عجلة من أمر شبابي.
قد تكون رائحة الاطمئنان والفرح كرائحة طاجين يمزج بين الحلاوة والملوحة.
سكت متأملا في فنجانه الفارغ، قد أنهى شرب القهوة، فتغيرت رائحة القهوة برائحة أخرى لم يستطع تلمسها، قال:
يبدو أن هذه هي رائحة الشيخوخة، رائحة الاستعداد للوداع والرحيل ممزوجة برائحة الحياة بكل تفاصيلها المفرحة والمحزنة التي بصمت عمري. إنها رائحة آخر فصل من فصول الحياة.. لكنها بدون شك ليست النهاية، بل هي رائحة بداية فصل آخر في مكان آخر وزمن غير زمن هذه الدنيا، رائحة مثل التي تنبعث من الأزهار ولا ندري أي رياح أو نسيم عليل أوصلها إلى أنوفنا، هي رائحة عطر يتسلل إلى الهواء من تربة عشب بعد المطر. هي رائحة مشاعر نعيشها ولا نتمكن من وصفها..
ظل صامتا لا يدري كم من الوقت، رن جرس الباب، نهض ببطء، بخطوات ثقيلة، فتح الباب، وجد جارته الحاجة خديجة، المتقاعدة والتي تعيش وحدها منذ سنين بعد رحيل زوجها:
- صباح الخير الحاجة، مرحبا كيف حالك؟
- نقول الحمدلله، ماذا بك ؟ تأخرت في فتح الباب، قد قلقت عليك.
- لقد كنت أبحث عن رائحة الشيخوخة. قال وقد علت ضحكاته.
نظرت إليه الجارة باستغراب.
- لا تهتمي الحاجة لهلوساتي، هيا ادخلي، تشربين معي القهوة، فأنا لم أتناول بعد فنجان الصباح.
لم تعلق الحاجة على كلامه ، لقد اعتادت على خلطه الصباحات بالمساءات، و هي متأكدة من أنه قد شرب قهوته الصباحية والمسائية كذلك .
يبدو أنه نسي أن للشيخوخة كذلك رائحة مرض النسيان الذي يشبه رائحة معطرات الجو المضرة بالصحة.