في شتاء الإسكندرية لا تعرف إن كنت تمشي في مدينةٍ أم في ذاكرة . المطر يهطل متقطعًا، يجرب صوته على الأسفلت قبل أن يستقر في البحر. الكورنيش ممتدٌ مثل صفحة كتابٍ لا ينتهي، والأمواج ثائرةٌ تهتف فوق الصخر . هواءٌ باردٌ يلسع الوجه فيوقظ قلبًا يقابل رائحة البن في مقهى شعبيٍ بشغفٍ عند محطة الترام.
في المقهى راديو قديمٍ ما زال قادرًا على أن يملأ المكان بصوت الست عبر ذبذباتٍ مشوشةٍ.
"لسه فاكر قلبي يديلك أمان"
الترام يمرُّ، وجوه الركاب تطلُّ من النوافذ. بعضهم يضحك للشتاء، بعضهم ينام، وبعضهم ينظر إليك مباشرةً.
المدينة في تلك اللحظة تلتف حول نفسها. كل شتاءٍ يعيدنا إلى ذات المقهى، ذات الأغنية، ذات الترام.
أجلس إلى طاولةٍ خشبيةٍ ملطخةٍ ببقع الشاي . القهوجي لم يسألني، وضع كوب شايٍ ثقيلٍ أمامي .
أم كلثوم ما زالت تغني. صوتها جدارٌ يفصل بيني وبين العالم. كلما صعد صوتها انمحى صوت الترام، وتحول صوت المطر إلى إيقاعٍ خلفي للأغنية.
فجأةً، يدخل رجلٌ إلى المقهى، وجهه يشبه وجهي إلى حد الإرباك. جلس أمامي. لم يبتسم، لم يحيّني. فقط مدَّ يده إلى كوب الشاي وشرب نصفه.
يخرج صوت أم كلثوم مشوشًا ثم يعود صافيًا. يشعل الرجل سيجارةً، يشكل دخانها وجوهًا تتلاشى سريعًا، وجوه ركاب الترام أنفسهم.
خارج المقهى، يتوقف الترام عند التقاطع. رأيت امرأةً تنزل منه. شعرها مبلولٌ بالمطر، ترتدي معطفًا أزرقَ داكنًا. بدت مألوفةً. مألوفةً أكثر من اللازم، مشيت باتجاهها دون وعيٍ.
حين اقتربت منها ابتسمت. قالت:
- تأخرت .. الأغنية قربت تخلص.
كنت على يقينٍ أنني لا أعرفها، وفي الوقت نفسه أشعر أنني عشت معها عمرًا. مدَّت يدها وأمسكت يدي، وسارت بي نحو البحر.
المطر يشتد، والبحر هائجٌ، يبتعد الترام تاركًا صريره في الهواء، وصوت الست عبر الراديو يتلاشى رويدًا رويدًا
"لسه فاكر.. كان زمان" ثم انقطع فجأةً.
التفت إليها، لأجدني وحدي. يدي فارغةٌ، البحر أمامي، المقهى خلفي، أما الرجل الذي يشبهني فقد اختفى.
مشيت على الكورنيش، والمطر يغمرني. سمعت من بعيدٍ صوت الترام يقترب من جديدٍ. توقفت. لم أدرِ إن كنت سأصعد، أم أنني سأظلُّ واقفًا على الرصيف أنتظر أن يعيد الراديو تشغيل الأغنية من
في المقهى راديو قديمٍ ما زال قادرًا على أن يملأ المكان بصوت الست عبر ذبذباتٍ مشوشةٍ.
"لسه فاكر قلبي يديلك أمان"
الترام يمرُّ، وجوه الركاب تطلُّ من النوافذ. بعضهم يضحك للشتاء، بعضهم ينام، وبعضهم ينظر إليك مباشرةً.
المدينة في تلك اللحظة تلتف حول نفسها. كل شتاءٍ يعيدنا إلى ذات المقهى، ذات الأغنية، ذات الترام.
أجلس إلى طاولةٍ خشبيةٍ ملطخةٍ ببقع الشاي . القهوجي لم يسألني، وضع كوب شايٍ ثقيلٍ أمامي .
أم كلثوم ما زالت تغني. صوتها جدارٌ يفصل بيني وبين العالم. كلما صعد صوتها انمحى صوت الترام، وتحول صوت المطر إلى إيقاعٍ خلفي للأغنية.
فجأةً، يدخل رجلٌ إلى المقهى، وجهه يشبه وجهي إلى حد الإرباك. جلس أمامي. لم يبتسم، لم يحيّني. فقط مدَّ يده إلى كوب الشاي وشرب نصفه.
يخرج صوت أم كلثوم مشوشًا ثم يعود صافيًا. يشعل الرجل سيجارةً، يشكل دخانها وجوهًا تتلاشى سريعًا، وجوه ركاب الترام أنفسهم.
خارج المقهى، يتوقف الترام عند التقاطع. رأيت امرأةً تنزل منه. شعرها مبلولٌ بالمطر، ترتدي معطفًا أزرقَ داكنًا. بدت مألوفةً. مألوفةً أكثر من اللازم، مشيت باتجاهها دون وعيٍ.
حين اقتربت منها ابتسمت. قالت:
- تأخرت .. الأغنية قربت تخلص.
كنت على يقينٍ أنني لا أعرفها، وفي الوقت نفسه أشعر أنني عشت معها عمرًا. مدَّت يدها وأمسكت يدي، وسارت بي نحو البحر.
المطر يشتد، والبحر هائجٌ، يبتعد الترام تاركًا صريره في الهواء، وصوت الست عبر الراديو يتلاشى رويدًا رويدًا
"لسه فاكر.. كان زمان" ثم انقطع فجأةً.
التفت إليها، لأجدني وحدي. يدي فارغةٌ، البحر أمامي، المقهى خلفي، أما الرجل الذي يشبهني فقد اختفى.
مشيت على الكورنيش، والمطر يغمرني. سمعت من بعيدٍ صوت الترام يقترب من جديدٍ. توقفت. لم أدرِ إن كنت سأصعد، أم أنني سأظلُّ واقفًا على الرصيف أنتظر أن يعيد الراديو تشغيل الأغنية من