قد يصدم فعل "تٌباد" القارئ فيتهمني بالمبالغة لأنه لم يعش في المتلوى أو عاش فيها محروما جهلا أو بلاهة من إحساس حاد بالانتماء إلى مسقط الرأس أو إلى وطن ، المتلوي إحدى مكوناته الأساسية ، لذلك قد يكون فعل "تٌباد" لا يعبر بالضبط عن المأساة ، فالمتلوي التي كتبت عنها أكثر من مرة تعرضت إلى ثلاث...
من جرادة مدينة الفحم أحيي الساهرين على هذه الندوة..
أحيي أيضا هذا الحضور الكرام..
أحييهم كلهم بنكهة دفء الفحم في الليالي الصقيعية..
لا يستقيم الحديث عن أدب المناجم دون التطرق إلى لغة المنجم التي تعد أحد مكونات هذا الصنف الأدبي الذي يحاول جاهدا فرض ذاته في الساحة الثقافية والفنية...
ماذا يُقصد...
تمر أيام العمل بمنجم الفحم متشابهة...
يصعد العمال ويهبطون خلال رحلتهم اليومية المعتادة...
رحلة "الداخَلْ ميتْ والخارَجْ حيّْ".
تمتزج آهاتهم مع صخب آلات المنجم...
يكفنهم الظلام والغبار وتلاحقهم أوامر المسؤولين التي لا تنتهي...
ها أنا أسير في مسارب هذا العالم الباطني المظلم..
يلفني الغبار من كل...
في بداية الثمانينات أدخلت الشركة المنجمية فوجا جديدا من العمال لتعويض فوج آخر بعض أفراده بلغوا سن التقاعد وبعضهم خرج من العمل لأسباب تتعلق بتفاقم أمراضهم المهنية، وكان يتم اختيار الجدد وفق بروتوكول خاص، مختلف نسبيا عن البروتوكول الموروث من فرنسا في سياق سياسة ما سمي بالمغرب ب"مغربة المؤسسات"،...
آه يا "لاطايْ"!!
كم مرة داس الموت بقدميه في فراغاتك على أزهار متفتحة باسمة كانت تداعب الحياة وتنثر السعادة والفرح حولها فأضحت في رمشة عين ذابلة حزينة...
باشر العَمْراوي عمله ب"لاطايْ" كعادته ذلك اليوم.
أزاح الحواجز من ممر الفحم..
بعد أن تأكد من أن "الطولا" مثبتة جيدا ببعضها البعض، جلس فوق إحدى...
هدوء رهيب لا متناهي يبسط أجنحته على المكان...
إحساس بالوحشة يرسم ملامح عالم آخر..
تشدني بالمكان روابط متعددة.
أعرف الكثير من الجيران والأقارب الذين يقيمون أبديا هنا...
أغلبهم عمال فحم.
دخلت المقبرة بخشوع.
سلمت على الموتى.
اتجهت صوب قبر الوالد.
قرأت الفاتحة ودعوت له بالرحمة...
رائحة الموت تحبس...
أصبحت رقما من بين آلاف الأرقام التي تغور كل يوم في باطن الأرض بعيدا عن أشعة الشمس، ونور القمر وضياء النجوم...
أصبحت رقما يبحث عن كسرة خبز تُطهى على لفحات الهواء الباردة والحارة المغبرة... أتبعها وهي تتدحرج بين الفراغات القاتلة، وتصدعات الصخور المهلكة...
أصبحت رقما أسوة بكل ما حولي... لا فرق بيني...
انتشر ذات صباح في عموم قرية حاسي بلال خبر انهيار أحد آبار الفحم..
ملأت رائحة الموت البغيض كل طريق.. كل بيت.. كل دكان.. كل ساحة...
سارع الناس إلى بوابة المنجم الرئيسية أفرادا وجماعات لتقصي الأخبار الصاعدة من عمق الأرض..
رجال.. نساء.. أطفال.. شيوخ.. تصحبهم أحزانهم ومآسيهم المتراكمة وجراحهم...
عــــلمٌ في حـــــينا رمــــز الألـــم = حجــــري الروح دام كم قتـل
مطرقٌ يهذي عـــــلى مر الدجــى = كم حكى والحكم بؤس وخجــــل
حالـــم مذ كـــان يخبو بـــــــيننــــا = ما بهــــا الأحياء فالموت نـزل
غرقت فــي الوحل أيام الصبــا = وتداعى الوجد في حضن الأجـل
زغـــردي يا حب واحكي عنهــم =...
(لا تسألوا عن وجهتي
المآتم كثيرة والنواح
يكسر جدار الصمت،
في مدينتي...
حيث سيزيف يشقى
في حضن السواد ، يتنفس
الموت لنعيش و نحيا.
لا تسألوا عن قدري،
أكتاف أبناء مدينتي
تورمت من حمل الأكفان
من سواد إلى سواد!
نساء مدينتي لا يتكحلن،
سواد العين خلق معهن
و حين تبكين فراق حبيب
تتدلى السيول السوداء...
أكتب بإصرار عامل بمنجم الفحم
خوذتي لغتي
وعلى جبيني احمل حلمي شكلة المصباح
قلبي بطارية الشحن
وضوئي من تلقاء نبضي اقدحه
كي اشق حلكة الأنفاق
بإزميل من معدن الحب أحفر منجم هذا المجاز
أتغلغل زحفا على الحرف
نحو بواطن القول
وأنا أحاذر أن تنهار علي أشعاري
حتى أني كلما وضعت كفي على صدري
اشتبه...
أنا يوسف الفحمي
يا أبتي
ولدت من بئر
وفي فمي
ملعقة من فحم
لم نكن نعرف
طعم الزيتون
ولا طعم الليمون
كل ما كان
رغيف فحمي
وحليب فحمي
كنا نرضعه من أثداء أمهاتنا
ولعب فحمية
نصنعها بأيدينا
كل شيء كان بلون الفحم
أنا الطفل الفحمي
يا أبتي
ولدت من فحم
ومن رحم حجري
لأنكسر في وحل
ليقتل الحلم
ويقبر العمر...
هل يمكن لنا أن نعتبر النص الشعري الذي أنجزه الشاعر السهلي عويشي نصا ذا خطاب متماسك؟ ما الأشياء التي حققت نصيته؟..
إن نصوص السهلي عويشي الشعرية لا تخلو من رسالة، جميع عناصرها تؤدي وظيفتها الشعرية، وتشكل الخطاب. وما يميز هذا الخطاب الشعري عند شاعرنا عويشي هو تضمنه بنية سردية ، تحمل قصة يعمل الشاعر...
في أول مايو
تستيقظ عمَّال العالم ، تخرج ..
من منجم فحم الليل ، الإمبريالي المزعج
تتمطع ، تفرد ضَهْر شقاها و تضحك
تفتح شبَّاك اليوم ، الغد المبهج
حيث الإنسان المنتج ..
يصبح مالك أمره و عمره و أجره
يعرف يحسب
يجمع ، يجمع ، يقسم ، يجمع
لا يطرح فيه سمسار أو يضرب
يتعلم يقرا .. و يكتب ،
علىٰ صدر جدار...
لي الشرف والفخر بأنني أوّل من كتب حروفا عن ضحايا أحداث 4 مارس 1937 من عمال منجم الفسفاط في المغازة المركزية بالمتلوي التابعة لشركة الفسفاط وكان القوْل شعرا وكان عمري ثمان عشرة سنة .
محمد عمارشعابنية
(يومنا الرابعُ من مارسَ تاريخ دماءٍ وانقلابْ
ضد عهد يبستْ أزهارُهُ
وقستْ أمطارُهُ
واختفى...