د. سيد شعبان

توقف قطار السادسة صباحا في محطة مصر ذلك الصرح الذي يشبه في كثير من تصميمه محطة لندن، تناسق بين أجزاء المكان، براعة في تشيكل قضبان الفولاذ، يبدو أن المحتلين كانوا يبنون لقرون تمتد، مضت ساعتان تقريبا، عندما خرجت من البيت والليل يلم أستاره، أدركت القطار قبل أن يغادر محطته التي تحمل عباءة الزمن،...
في كل صباح تنادي عليها الست عدلات؛ تطالبها بإحضار العيش والفول وبضع حبات من الطعمية؛ يخرج عمنا السيد من شرفة البيت يرجوها أن تمر على سلومة البقال؛ تحضر له علبة السجائر؛ وحبة جوز؛ يغامزها بحاجبيه؛ صوت عمتنا أم بهلول يرج الشارع؛ بنت لعبيه هات لي صابون وكلور؛ هدوم عمك الأسطى محسوب زفت وقطران؛ ترجع...
كل عام يحدث هذا، تكاد الأشجار تتهاوى حيث تهب عاصفة شديدة؛ الآخرون سبقونا إلى العالم الذي تسكنه الأرواح، يبدو أنهم وجدوا سعادة هناك، تتجمع القطط والكلاب لتكمل تفاصيل لوحة مبهرة، أسكن جوار المقابر، أشعر بحركة داخلها كل ليلة؛ تدب حياة لا أستطيع تصورها؛ لم يأت أحد منها ليخبرني بما هناك؛ ألتمس طريقي...
كان اللعب سمير لداتي والغناء شدوهم أما أنا فكنت ذلك الفتى الذي يبحث عن المعرفة، ينقب عنها بين طيات الأوراق الملقاة عرض الشارع وعند عم حمدي صالح البقال، حين أعود من المدرسة كانت الإذاعة رفيقة طعامي، استمعت إليها وتعلقت بأصوات مذيعيها، أفتيم قريطم وماجد سرحان، كان بيتنا الطيني رحبا ولا إخال غيره...
كعادته نام مبكرا؛ فالشتاء يستدعى الخمول؛ يحتاج الطعام والحساء ينفث دخانه فتستدفيء منه بطون الجوعى، كل هذا صعب في زمن الحروب حيث الأسواق تعاني الكساد والباعة يمنعهم المطر من أن يفترشوا الأرض. توسد ذراعه وحاول أن يغمض عينيه، تتابعت مشاهد من حياته مثل شريط سينمائي تعرضه قناة الذكريات، تدوي الريح...
دقت ساعة منتصف الليل؛ ثمة سكون خيم على الحياة من حولي؛ يدق باب البيت؛ لم أتوقع زائرا؛ ترى من يكون القادم؟ أعيش هنا منعزلا؛ انتابني خوف شديد؛ بدأت أفكر في مواجهة مايحدث؛ نظرت إلى عصا أبي؛ تراها تصلح لمواجهة الخطر؟ تسقط السماء مطرا شديدا؛ لوذت بربي؛ ثم آويت إلى فراشي؛ سريعا أخذت في سبات عميق...
بحثت عنها فلم أجدها؛ صارت هذه مشكلتي في الحياة في ذلك البيت الذي ازدحم ببقايا الأجداد؛ ثيابهم لا تصلح لي،لا أقلام تركوها ولا أموال تورثناها؛ إنهم شغبوا علينا بحكاياتهم، فقط كانوا يعتاشون عليها. تعيث الفئران فسادا في البيت، الثقوب تشبه الغربال، يبدو أنها ملت معيشتنا؛ في زمن الجدب تفر الهرة بحثا...
على عادة أستاذنا محمد مستجاب حين يرد كل صورة أو شاردة إلى معقل وتدها ومربط أمرها؛ نرى الفحولة ضد الفسولة ومن هنا شرعوا في وصف كل قوي بالفحل فهذا الفلاح ينظر ماشيته فيأتي إلى ثور عنده فيقول هو الفحل معرفا بأل العهد ومن الرجال من يرغم أنوف أربعة من النساء أو ماملكت يمينه فيطوف عليهن في ليلة واحدة...
وضع عم رمضان يده على ظهره؛ يتوكأ عليها ضربه الزمن بمعوله، صار أشبه بقوس قزح، تعلوه حدبة ناتئة، يمشي وكأنما هو مكلف بعد الحصى، يجمع أفكاره المتناثرة حين تغيم ذاكرته وراء تلال من الفوضى، دب فيه الوهن، صار حطام رجل يئس من حياته؛ تبدلت الأيام كما السنة تغير فصولها، خريف وراءه شتاء؛ توقفت عقارب ساعته...
حاولت أن ألملم جراحي التي نزفت، تمضي السفينة إلى وجهتها التي تسير فيها، أخبرني بأنه راحل عما قريب؛ حين هاتفته كان صوته متهجدا، أسرعت إلى لقائه غير عابيء بالليل الذي خيم على المكان، أدركته وقد سرت صفرة الموت في جسده، هزأ بجزعي؛ يكره الضعف الذي يخور أمامه الرجال، استدعى كل أحبته ليودعهم، سألني عن...
أغلقت باب البيت الحجري بعد العشاء؛ أخلدت إلى النوم بعد عناء يوم شتوي؛ اندسست بين أغطيتي؛ تدوي الريح في الخارج؛ تنبح الكلاب؛ تلقي السحب بحمولتها؛ سيول تكاد تقتلع الأشجار؛ أصوات مخيفة؛ ربما تهزأ الجن بالمنزوين؛ كثيرا ما أخبرتني أمي أنها ترى كائنات من العالم الآخر؛ أتسمع نبضات قلبي؛ يدب الخوف؛ أردد...
ركبت الحافلة التي تتداعى أركانها؛ مثل كل شيء يضربه الذبول باتت تعاني الموات؛ هل حقا يصيب الآلات الوهن؟ حين يكون الفقر على المرء أن يتدبر حاله، لاسبيل لرفاهية في وقت الغلاء؛ أعاني خواء حافظة نقودي؛ متى أراها منتفخة؟ أخرجت لمحصل التذاكر قسيمة الركوب،أسلمت عيني للنوم؛ بدا لي العالم أشد صخبا؛ حين...
حين تقرأ لنجيب محفوظ نصا سرديا فأنت مقدم على مغامرة لاتؤمن عواقبها، هذه تجربة أمر بها؛ أحاول التخلص من إسر قبضته؛ أتهيب نصوصه التي تحتمل أكثر من وجه للتأويل. هناك من قرأه عجلا فجاء حكمه غير صائب؛ يمتلك نجيب محفوظ معجما لغويا قل أن يتوفر لمبدع غيره؛ أعماله السردية تشي بما اختزنه في عقل يراوح بين...
استهلال عجيب بهذا الاستفهام: ترى من يذرع الآن أرصفة القطارات جيئة وذهابا؟ تحاول أيها القارئ اكتشاف تلك الأرصفة، ترسم معالمها واتجاهاتها، إنها الأرصفة التي تربط (دسوق) بذاكرة قاطنيها؛ فلم تزل تلك المدينة العريقة رمزا لأولياء الله الصالحين، وملاذا لهؤلاء الفقراء التي زارت الفئران جواربهم وأثوابهم،...
لا أخفي عليكم حدثا شغلني الليلة في منامي؛ كل ما أعاني منه في النهار يأتي -متتابعا مثل شريط سينمائي- في الحلم: آنا أجد له حلا وآونة أعجز عن فك شفراته. هذا سر لا تخبروا به أحدا، بالتأكيد حالة مرضية لكنني لن أذهب إلى طبيب نفسي؛ غير معقول أن يراني صغاري أو تعلم زوجتي بأنني مصاب بالهذيان. لا تتمنى...

هذا الملف

نصوص
499
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى