اعترضت بشدّة ،مع علمها أن اعتراضها لن يغيّر من قراره شيئا. هي تعرفه حين يصمّم على أمر معين.
توقعت منه أن يبيع كلّ شيء إلا الباب.
- هل يوجد عاقل في الدنيا يبيع باب بيته .
(من حقّها أن يناقشها بما انها زوجته )قال في نفسه (لاسيما أنّها هي من ابتاعت الباب علّها تقتنع وتخفّف من حدّة غضبها). لكنّه...
أنت تشيكوفية بامتياز، كما أنك أيضا إدريسية بلا منازع. كلاهما لم تبتعد أبصارهما، ولا اهتماميهما عن الفقراء، والبائسين، والتعساء، والمقهورين، سواء كان مصدر القهر خارجيا، أو داخليا. وتلك الفئات بحق هم الأبطال الحقيقيون للقصة القصيرة، ولسوف يبقى الأمر كذلك مهما أوجعوا رؤوسنا بالميتاسرد، وبالفذلكات...
الجزء الأول:
(مقدمة الكتابة)
تستهوينا القصص القصيرة لأنها ميدان رحب لكتابة الناقد. فكل قراءة مجالها الإطراء، والتصنيف النحوي، وتأكيد انضباط النص بقواعد وأسس الكتابة القصصية، هي مجرد ثغاء وتكرار ممل لمعادلات قياسية موضوعة، لا تغني النص ولا ترفعه. فالحياة التي روحها الأدبية تكمن في فن القصة...
لطالما سحرتني الشاشة الفضية، هذا البهاء في العتمة، والإضاءة التي تكشف بريق العيون، تلك الرهبة بالصوت، والجمال بنجوم السينما، حتى الرائحة الرطبة التي تتنسم مع الإشعاع البهي، تنفصل عمَّن حولك وعن ضوء النهار.
لم يخطر ببالي أن وجهي سيحتلّ الشاشة يوما، فوجئت باختيار المخرج الذي وقع عليَّ، لتمثيل دور...
لأول مرة أحظى بأشيائي الخاصة ملعقتي، صحني، كوبي، فرشاة أسناني، حقيبة سفر صغيرة كتب عليها اسمي، حتى ثيابي لأول مرة تكون لي وحدي، فضيق الحال وتقاربنا بالسن أنا وأخواتي جعلا ثيابنا مشتركة ،لأول مرة سأغادر أهلي، و كان ذلك كفيلاً لخلق القلق والتوتر لطفلة في الصف الخامس ابتدائي. وأذكر يومها مرّ...
يؤلمني أن أقرأ قلقها، بصمتها وارتجاف يديها، لا شك أنها في موقف شديد الصعوبة، ولا تُحسد، عليه
عيناها تنطقان بالقهر وبالخذلان:
- قليل الذوق أخوك لم يأت بعد، هاتفته... وهو لا يكترث.
ويصدف أن يسمعها أبي... فيهمس بشفتين بيضاوين وبوهن شديد:
- لا عليك... هذا الولد العاق لا أنتظر منه شيئاً.
تمسد يدي...
بذلت جهدا كبيرا، كي أقنع أمي بواجب التعزية في وفاة أبي، صحيح أنني كنت قد قاطعته منذ مدة قصيرة، لكن أصر عمي على حضورنا، فأنا وريث أبي الوحيد.
سلّمت أمي لمجلس النساء، تجاهلتها جدتي، و احتضتني بنحيب قائلة:
ـ من رائحة المرحوم.
رائحة...رائحة أعادتني لصراخهما الذي أرعبني
..جلست في زاوية الغرفة...
“إن تاريخ كل مجتمع موجود إلى يومنا هذا هو تاريخ الصراع الطبقي"
كتبت هذا -وكان محور محاضرتي- على اللوح والتفتُّ الى أعين لا أقرا منها إلّا الجمود و عدم الاهتمام ...وكي انتشلهم من سباتهم ...سألت :
-من يذكر لي أسباب حتمية الصراع الطبقي ؟
أتاني صوت احد المتندرين :
ـأي طبق تقصد ؟ ..طبق القش أم(...
العبرة بالمعالجة
القضية متداولة.. الفقر الذي يحني الجباه، ويمزق عرى العلاقات الإنسانية. شانها شأن كافة القضايا التي نتداولها في كتاباتنا. إنما العبرة بالمعالجة. لم يعد في وسعنا ككتاب أن نخترع قضايا غير مطروقة. لكن بوسعنا أن نتفنن في طرق المعالجة. وهذا ما أراه في هذه القصة. تناول الفقر المادي...
تتكدس أضابير المراجعين أمامي، وانا أتامل وجوههم المحتقنة فاغرا فاهي "كالمسطول" ، يصعب عليّ تسيير أمورهم ، وأنا في هذا التشت والقلق.
زميلي الفيلسوف يدق بأنامله على المكتب، ولا ألتفت إليه ..
صراخهم لا أسمعه وحده صوتها يدوي:
ـ طلقني الحياة معك باتت مستحيلة.
أي طريق مسدود هذا،لا أنكربأني صرت...
هذا الصباح عصيب، خوف ضمّني أميته في قلبي كاد أن يزعزع خطواتي، وأن يشي بهشاشتي، غير المتناسبة مع حجم مسؤولياتي... مسؤولياتي؟! أضحك بسخرية وأضبط نفسي ما أمكن فما أن اقتربتُ من باب مكتبي؛ حتى ارتديتُ ثياب الوقار، هرول أمامي لم يكن مجرد مدير مكتبي فقط، بل كاتم أسراري والوحيد الذي يحق له دخول مكتبي...
تستقبلني بصقة أمي الحارقة لوجهي:
ـ لست ابنتي ولا أعرفك... لكن (انضربي)، ادخلي كي أريح الناس من شرّك.
رأيت إخوتي بانتظاري، نظراتهم سيوف مسلّطة على رقبتي أعلم كم يحتقرونني،هم لا يعلمون كم كنت أبغضها.
خطفتْ الأبصار والقلوب، وُهبتْ جمالا ليس بأكثر مما وُهبتُ؛ لكنه حال بيني ومن أحب ،وزاد الطين...
بهدوء شديد، تهمس قدماي لأرض صقيله باردة، أقترب من نافذة تعلو سريره، فيطالعني نور فضي، ينسكب على ملامحه المتعبة ببهاء، ينبع من جبينه بسخاء، أنقر الزجاج؛ فتفرّ حزم ضوئية مبهرة من أناملي.
ـ هل نمت جيدا يا قمري ...؟ هل ارتحت يا بن قلبي؟
يتقلب بقلق ويمسح عينيه؛ فتتكشف دهشة وخوفاً:
ـمن؟
أتقدم بنظراتي...
تغبّ عيناي أحرف اسمه، مكتوبة بخط كوفيّ على لوحة البوابة، يصرّ على هذا في بلد امتصّ ضبابها كل اللغات.
أتردد بقرع الجرس.
يومها قال: كلما أمعن العمر في التوغل بالمجهول، واشتدت القباحة من حولي؛ شعرت بحاجتي للحديث مع الطيبين البسطاء، فلا أجد غيرها!
قلت : لا ترهق نفسك بالشرح فأنا أفهمك.
_مضى كل هذا...
لن أستنجدَ بأحد، سيقولون إنّني خرَّفتُ وسيخبرون أولادي، وهؤلاء لن يرحموني من عتابهم القاسي. ابني الكبير، بحجّة عطفه عليّ، سيجد مبرراً لسوْقي معه إلى المدينة، وأنا أمقتُ السكنَ هناك بعيداً عن أرضي وبيتي، بيتي! كيف لي أن أستدِلَّ عليه في هذا الظّلام الدّامس... أستحقُّ ما أنا فيه، ما لي ومواعيد...