محمد علام - جِلدٌ ميّت.. قصة قصيرة

أغلقتُ النوافذ، وأزحتُ الستار عن مربعات الزجاج الصغيرة، وتمددت على ملاءة خفيفة فوق السجادة، وأغمضت عيني متأهبة لأحلام تتلألأ الشمسُ في فضائها وتفترش البيوت والشوارع بالنور، وتوخزني بالدفء وأنا جالسة على مكتبي مُستغرقة في رسم المستقبل، بمجرد ما سحبتُ ورقة وقلمًا، حتى راحت الخيوط تترابط وتتداخل مع بعضها في خفة رهيبة، فمرة أرسم عُش غراب، ومرة أرسم قردًا يتدلى من شجرة لف ذيله على أحد أغصانها، ومرة أرسمُ المستقبل عود نقانق تعلوه جمجمة ترتدي نظارة شمس سوداء، وتطاول من رأسها زهورٌ سوداء.. قالت لي عائشة وهي تغرس أصابعها الدقيقة في فروة رأسي الغاطسة تحت رغاوي الصابون: لكِ شعرٌ جميل يا بنتي.. لماذا لا تكشفيه للشمس وترتوين بشبابك الذي لن يدومَ طويلًا؟
لم أعرف أن شعري سيسبب ضيقًا للشاب الذي جذبني من ذراعي في قاعة المحاضرات واعتصر لساني في فمه حتى سقطت حقيبتي على الأرض، وفقدتُ أي قدرة على مقاومة، وراحت أنامله تزحف على كتفي ورقبتي وتتسلل من تحت حجابي حتى قبض على خصلة شعر ففتح عينيه وابتعد مصعوقًا وقال: ما هذا؟ وفجأة انشرخ السقف وهوت عينا عائشة في حوض السمك الموجود بالممر، ففتحتُ حقيبتي أبحثُ عن شيء كي أثقب به الحوض وأستخرجهما، ولا شيء، نظرت إلى الصندوق، إنه حوض كبير لا يمكن أن أطال قمته.. خيبة الأمل تلف لساني، وأرى عيني عائشة ملتصقتين بزجاج الحوض، متوسلتين، ومنكسرتين، تماما كما كانتا حين تنثُر مسحوق التالك على ظهري العاري، وتمرر كفها ثم تسحبها سريعًا، فأنظر لها مبتسمة، وأقول لقد اعتدت على ملمس كفك يا عائشة، إنه رغم خشونته القليلة، فقسوته تشعرني بنعومتي وبأنني ما زلت فتية، فتبتسم وتتسع عيناها وتهم لتضغط بكامل قوتها، فتنغرس نتوءات جلدها الميتة في ظهري، وأشعرُ أنها تخترق طبقات الجلد وتغوص، طبقة فوق طبقة، فوق طبقة.. وبحركة سريعة جذب الشابُ من وراء ظهره مُسدسًا وأطلق منه رصاصتين لم تصبا الصندوق أبدًا، لكنهما أثرا على ثبات البراويز الكبيرة التي تحمل لوحات لموهوبين في رسم علم مصر وبعض تفاصيل تافهة أخرى، وبحركة مسرحية يُقدمُ المُخرجُ فرقته، لكن الممثلين كانوا قد تركوا الخشبة وفروا، عامل الإضاءة في ورطة، ولكن لابد أن يظل الجميع في الظلام ولو كُسرت عُنق المُخرج، وفجأة سقط أحد تلك البراويز، هو برواز تشبه حافته أحد تلك البراويز الكبيرة، كان مرآة، سقط على حوض الحمام وأنا أفرَشُ أسناني بالشمس فكسره، فانفجرت من الماسورة ماء دافق، تقذفُ قطراته بعض خصلات شعر تساقطت مني قديمًا، وأسماك صغيرة، وعينا عائشة.. وشعرتُ أنني لن أستطيع الابتسام مرة أخرى.. وضغطتُ على كفي كي أتأكد، هل أنا في حلم؟ على ظهر يدي نتوء جلدي منتفخ منذ الصغر، أضغط عليه بقوة، فهل أشعرُ بشيء؟
"تقدري تتفضلي"، أفتح عيني فأرى وجه الممرضة الصغيرة غاطسًا في الكمامة الزرقاء ورأسها مُدور في وشاح أبيض تتدلى أطرافه على كتفيها، وتبدو عيناها الشيء الوحيد الذي له ملامح، "لقد حاولت إيقاظك أكثر من مرة". تضع يديها في جيبي بلوزتها البيضاء وتقف على مبعدة منكمشة في نفسها حتى أشعرُ أن الصوت قادم من قبو سحيق العمق، مازلت أفرك يدي حتى انتبهت لتهتك القفاز حول يدي، أخيرًا استقر ابهامي على النتوء الجلدي، كل شيء في وضعه الصحيح.
ألم يأت أحدٌ من أهلها؟
"لم يأتِ أحد.
سألتُ الممرضة وأنا أسيرُ خلفها مُثقلة الرأس عن إجراءات الدفن، فقالت دون أن تلتفت أو تهدئ من خطوتها أنها حالة إيجابية من الدرجة الأولى، ولن يُسمح أن يتبع التقليد السائد في هذه الأثناء، وفتحت البابَ وقالت لي: "اتبعي التعليمات، لن يُسمح لكِ بأكثر من خمس دقائق".
تتمدد عائشة على سرير مُرتفع ومائل قليلًا إلى الأمام، وقد تم إحاطته بشريط على مسافة نصف متر تقريبًا. جبهتها السمراء تلمع تحت النيون، وأصابعها بجوارها منهارة في استسلام، كم اعتنت بي هذه الأيدي، في البرد والحزن والألم، والحب.. كانت تقلب أيامي كالفصول وتغمرني بما لم يُكتب لوالدي أن يغمراني به، ومع ذلك أشعرُ أن شيئًا ما عليّ أن أتذكره في هذه اللحظة، لكنني لا أستطيع، كم وددت أن أستعيد ملمس كفها لآخر مرة، ذلك الجلد المُثمرُ بالنتوءات وأشواك الجلد الصغيرة الميتة، الذي يبثّ قوة مسكنة عندما يداعب الطفلة الخائفة من الوحوش والظلام، ويحاوط رقبتها المرتعشة بحنو ورفق.
خرجت من المستشفى أقطف من كل شجرة تصادفني ورقة، أدسها في يدي، وأحكمُ قبضتي عليها حتى تنطحن جميعها معًا، ثم أنثرها على وجه النيل، ونظرتُ إلى يدي فإذا هي خضراء وبنية معًا، ونظرت بعيدًا فوجدت الشمس والأوبرا وبرج القاهرة رابضين في مواجهة أسود قصر النيل، مُغلقين أبوابهم بينما الأسود فاتحة فمها طوال الليل والنهار.. التصقت بجبهتي ورقة شجر طائرة على غير هدى، وأطل على الحدائق المُحيطة بالنيل، كم هي فارغة ووحيدة، وأرغبُ في البكاء، لكنني أشعرُ أن هناك شيئًا عليّ تذكره، ذاك الشيء عالقٌ في مكان ما، لكن كل الذكرياتِ أغلقت لحين إشعار آخر..
أفكر في جارِنا الذي مات بالكبِد قبل عام تقريبًا، كانت زوجته تسمح لي أن أساعدها في تدليكه تدليكًا طويلًا، والذي يُخفف آلامه ويهدأ ثورته وصراخه وأنينه، ويأخذه للنوم والشخير بصوت عالٍ.. كان بدينًا بشكل مرعب، وجسده لا يُلهم سوى بالألم والاشمئزاز، لكنه استيقظ ذات مرة ونحن نلملم بعض الأشياء بعد أن تأكدنا أنه استغرق في النوم، وأمسك بيدي ويد زوجته، وقال أعترف أنني مدين لهذين اليدين، ثم قرّب كلًا منهما من شفتيه وقبّلهما في امتنان بالغ، ونام مرة أخرى، لكن بلا شخير، أذكرُ أنني بكيتُ حينها وأنا أغلق الباب عليه، ولم أفتحه مرة أخرى.. مازال بإمكاني أن أتحسس أثر شفتيه على يدي، وأشعر بوجودي المادي لا من خلال نظرات الآخرين لنا فقط، ولكن يد الآخر أمرٌ ضروريٌ لتوازننا.
في زاوية بعيدة من الشارع المؤدي إلى منزلي، أرى انعكاس جاكتي البرونزي في المرآة الجانبية للسيارات على جانبي الطريق، أمرر أناملي ببطء على نسيجه كي لا يلاحظه أحد، وأمد البصر أمامي وخلفي ولكن لا أحد.. الشوارعُ مهجورة مثل جبل جليدي.. وغاص نظري إلى ما هو أبعد من السياج الحديدي وكراسي وطاولات الحديقة الصغيرة وأشجار الأكاسيا، وزهور البتونيا المُدلاة على السقيفة الخشبية.. وكأن العالم خلا من كل شيء، أو كأن كل شيء لم يبدأ بعد.. لقد اعتدنا على تلامس أجسادنا أثناء تدافعها في طوابير المخبز وفي المحلات والمواصلات، أما اليوم، نحن نلمس جلد بعضنا البعض أقل وأقل عند الفحص الطبي، فإن أكثر ما نعتز به خلال اليوم هو على الأرجح شاشة الهاتف المحمول، لم يعُد مُدهشًا بأن أمرر أناملي على يدي فلا أشعر بشيء، لقد اختفى أثر شفتي جاري، لقد اعتدت ملمس أزرار الآلة المعدنية التي تعطينا النقود، لكنني مهما حاولت أن أشعرها بامتناني لا تمنحني ابتسامة واحدة.



  • Like
التفاعلات: حيدر عاشور

تعليقات

قصة جميلة ..رغم بحر الالم فيها... سردها ودلالاته الفنية في غاية الروعة.. لو استطع ان ترفع مفردة ("تقدري) تتفضلي... بمرادف لها أكثر لغة.. نص -جلد ميّت- نص ممتع.. موفق استاذ محمد علام..تحياتي
 
أعلى