صلاح البشير - قالت لِيَّ الشقراء

جميلةٌ هي .. نعم جميلة جداً، حتى إنَّ البصر لا يُكِرُ إليها مرتين، شقراء الشعر طويله، مجدولة القوام، ليس فيها قصر ولا طول، فِي بياضها حُسن لا يخفى على أحد، كأنَّ الشمس قد اقتبست مِنْه نوراً ترسله إلى الوجود، لها صوتٌ رخيمٌ عذبٌ فِيْه كثيرٌ مِنْ الصفاء، يلائم وجهها المشرق النقي، هي أشبه بلحنٍ موسيقي، لا يلذ السمع وحده، إنَّما يلذ كل ما فِي الإنسان مِنْ ملكات الحس والشعور والتفكير، باختصار هي حسناء جميلة، جمعني بها عملي الجديد، فكان لا بُد مِنْ أنْ أحادثها عشرات المرات فِي اليوم الواحد.​
كان جُل حديثنا أول الأمر متعلقاً بالعمل، ثم بدأ ينحو نحواً أكثر اتساعاً حين علمت مِنْ بعض زملائنا فِي العمل أنَّ لي مع الكتابة هوى، وأنَّ هناك بعض القصص والروايات والمقالات الراتبة قد تم نشرها، سألتني ذات مرة، وكانت قد قرأت لِي ترجمة لقصة قصيرة كتبتها بعنوان "بنات الكمبو":
لِمَ لا تكتب بالإنجليزية مباشرةً؟ .. إنَّ لك قدرة رائعة على تصوير الأحداث، كما أنَّك تكتب الإنجليزية باحترافية .. ولو كنت مكانك لاحترفت الكتابة .. بدلاً مِنْ هذا العمل المضني.
أجبتها:
شكراً لك، إنَّ حديثك مشجع جداً .. ولكن لمْ يحن الوقت للكتابة بالإنجليزية المباشرة ..
قاطعتني مستفسرة:
لِمَ؟ .. أقصد ماذا تعني؟
أجبتها مكملاً:
الكتابة ليست صفاً لمجموعة مِنْ الكلمات فِي جُملٍ بليغةٍ متراصةٍ، الكتابة هي فكرة أو مجموعة أفكار تخرج مِنْ بيئة ما لتعيش فيها أو فِي بيئاتٍ ملائمة أخرى.
قاطعتني مرةً أخرى:
أفصح .. لمْ أفهمك ..
أجبتها:
دعيني أعيد صياغة ما قلت، لكي أكتب للمجتمع الأمريكي أو الغربي عموماً فأنا أمام أحد أمرين، إما أنْ أكتب عنْ بيئتي وثقافتي التي فِيْها ومِنْها نهلت، أو أنْ أكتب عنْ تأثري بالبيئة الأمريكية الغربية وثقافتها، وكلا الحالتين تستوجبان لغة تتماشى مع الواقع الأمريكي الغربي وثقافته حتى يستطيع أنْ يفهم بعمق ما أريد قوله.
عقدت حاجبيها وقالت سائلة:
بافتراض ذلك .. ماذا يمنعك؟
أجبتها:
ما زلت أرى أنْ فهمي للثقافة الغربية قاصراً .. لذا تجديني فِي حاجةٍ لبعض الوقت لسبر أغوارها ..
.. فاجأتني سائلة:
هلْ هذا هو أحد الأسباب التي تجعلك لا تنظر إليَّ وأنت تحادثني؟
فاجأني سؤالها، وجعلت أتهته قائلاً:
إنَّ بيئتي التي تربيت فِيْها، وثقافتي التي أعتز بِها، يمنعاني مِنْ النظر إليك مباشرة ..
ما زالت تصر على أسئلتها المحرجة:
ولكنك تتحدث إلى زملائنا الرجال وأنت تنظر إليهم كأنك تتحداهم .. إنني وزميلات لي نرقب حديثك معهم .. كأننا بك تسخر مِنْهم ..لقد ..
قاطعتها قائلاً:
إنني لا أستطيع أنْ أسخر من أحدٍ مهما قل شأنه .. تربيتي وثقافتي لا تسمحان لي بالسخرية من أحد ..
.. صمتت برهة ثم أردفت كأنَّها تريد أنْ تنحو بالحديث ناحية أخرى:
هلْ تعلم أنني أعرف بعض الكلمات العربية؟ .. لقد كانت مربيتي حتى سن الخامسة عربية .. غير أنَّ أمي صرفتها حين بدأت أتكلم معها بالعربية .. كما أنَّ لي صديقة عربية تعلمني الآن بعض الكلمات والتراكيب.
حاولت أنْ أرسم شيئاً مِنْ ابتسام وقد أغاظنى ما فعلته الأم، وقلت مجاملاً:
هذا أمر جيد، ماذا علمتك صديقتك؟
أجابت بعربية مكسرة:
أنا أوهبك .. إينتا هبيبي ..
هنا أحسست بالخطر، لأن لي قرني استشعار أحمد الله عليهما وقد وهبني إياهما ليعملا عند الخطر، خاصة الخطر الذي مِنْ خلفه امرأة. عدلت جلستي، وقلت متجاهلاً ما قالته ومتجاهلاً نظراتها:
وماذا أيضاً؟
قالت وهي تضحك فِي دلال:
...........................
وجمت مِنْ بذاءة الكلمات، ولعنتُ هذه الصديقة ألف مرة، وبدا واضحاً أنني غضبت مِنْ هذا الذي قيل، فسارعت تعتذر قائلة:
إنني آسفة .. يبدو أنني قد أغضبتك .. آسفة مرة أخرى ..
أجبتها ولملمت أغراضي أريد الهروب:
لا عليك .. ولكن هلْ تعلمين معنى ما قلتيه؟
أجابت دون تردد:
نعم
قلت بحزم:
إذن .. لا تردديه على مسمع أحد مرة أخرى .. حاولي أنْ تقتلعيه مِنْ ذاكرتك ..
ثم هممت بالخروج، فإذا هي تسألني سؤالاً ما ظننت يوماً أنْ أحداً مهما عظم أنْ يسألني أياه:
محمد .. هلْ أنت مِثْلِي؟
نزل علىّ السؤال كالصاعقة، وددت أنْ أصفعها لولا أننى لا أستطيع أنْ أصفع أنثى، تركت غرفة المكتب مباشرة إلى سيارتي، ثم إلى منزلي رغم عدم اكتمال الدوام.
.. كان ميزان النهار قد مال إلى زوال فِي يومي التالي، وثقل العمل وأبطأ. وحين تكون الحال هكذا ينشغل الناس بشيءٍ ما منعاً للملل، وقد يتجاوز المرء مِنَّا قيود الزمان والمكان فيتثائب فاتحاً فمه إلى أقصاه مترنماً بآهة ناعسة مع تفخيمها بالقدر الذي يسري فِيْه بعض التنميل المحبب فِي سائر الجسد، كنت حينها أداعب خاتم زواجي فِي غير قصد، ربما هي متلازمة لا أعرف لها أصلاً، لم ألحظ أنَّ كارلا تراقبني فِي شيءٍ مِنْ ضيق، كما لمْ ألحظ أنَّها قد اقتربت مِنِّي دون أنْ أحس. لمْ أرها إلا بعد أنْ اتكأت بيديها على طاولة المكتب، وسألتني:
هلْ تحبها؟
فاجأني سؤالها لسببين الأول لأنِّي وجدتها فجأة أمامي والثاني لأننى لا أعرف عمَنْ تسأل.
.. بدا لها أنَّ المفاجأة ألجمتني، كأنِّي كنت أنظر إليها فِي بلاهة، فأعادت كلماتها سائلة:
هلْ تُحبها؟
أجبتها سائلاً ً:
مَنْ؟ .. مَنْ تقصدين؟
رمقتني بنظرة ناكرة، ثم أشارت إلى خاتمي، وقالت:
صاحبة هذا الخاتم ..
أجبتها وقد أحس قرنا استشعاري بخطرٍ داهمٍ يقترب:
بالطبع ..
بدا لي أنها قد أصيبت بخيبة أمل، كأنها كانت تتوقع رداً آخر، سألتها:
لِمَ سألتني؟.
حاولت أنْ ترسم شيئاً مِنْ ابتسام ، لمْ تجب على سؤالي لكنها قالت وهي تتمتم:
يبدو أنَّ أمي كانت على حقٍ فِي قولها.
تذكرت أمها التي طردت المربية العربية لأنَّ ابنتها بدأت تتحدث إليها بالعربية، وسألتها مستفسراً ومتحدياً:
ما دخل أمك فِيْ الذي نقوله؟ ..
أجابت دون أنْ تنظر إلي:
لقد قالت لي أمي ذات حين لا تتزوجين مَنْ تحبين .. تزوجي مَنْ يحبك ..
كان غريباً أنْ أسمع مثل هذا الكلام مِنْ فتاة أمريكية شقراء، لقد كنت أحسب أنَّ هذا حديث بنات الشرق الأوسط، سألت نفسي، ترى هلْ أصل الحضارات واحد؟ هلْ نحن فِي حاجةٍ إلى صراع حضارات أم حوار حضارات؟ هممت أنْ أسألها ذات السؤال، لكن! دخول عميل إلى حيث كنا أسكتني.

فيرجينيا – الولايات المتحدة الأمريكية (مايو 2010).

تعليقات

المبدع الرائع صلاح البشير
تحية ومودة
قصة قصيرة متميزة بالقدرة الفائقة على الوصف. وصف الفتاة وجمالها ببراعة الفنان. وتوصيف ظروف العمل. والعلاقات الاحترازية والمحافظة . الجسورة التي تربط البطل بزملائه وخاصة الباردة مع زميلاته . مما دفع بالفتاة الى تأويلها بطريقة غريبة ومربكة . وذلك بروعة ومهارة السارد المتمكن من ادواته.. زد على ذلك ان القصة تتناول مشاكل الكتابة والترجمة.. وما يحيط بما من تقارب وتباعد.. الكتابة التي تتطلب طقوسا خاصة.. والترجمة التي تعتبر كتابة ثانية للنص وتشوبها الكثير من الخيانات.. ليتشعب الحديث حول السلوكات التي تميز الشرقيين عن الغربيين الذين ينمازون بقدر من الانفتاح والحرية . التي نغالي في تقديرها والتموقف منا.. وبيننا كعرب او كشرقيين محافظين
نص سردي جميل وشائق يدفعنا لاستحضار نصوص كتبت في هذا المجال تناقش علاقات الشرق لالغرب .. وهل الشرق رجل والانثى غرب
تحيات
 
و ردت السّمراء و قالت:
نحن بنات افريقيا..
عز و شرف و حرمة و كرامات..
شامخات شموخ النخلات..
شعارنا : عربيات لا غربيات
و تحية منّا لأصحاب الطربوش و الشاش
و العمامات..
 
هذا الموضوع الاثير حول لقاء الشرق بالغرب. خاض فيه الكتاب والروائيون العرب في رواياتهم وشغلهم انطلاقا من كتابات توفيق الحكيم وسهيل ادريس ويحيى حقي والطيب صالح على شكل الانتقام والثأر من المستعمر جنسيا. وكتب فيه الغربيون والمستشرقون على السواء في شكل انبهار بعظمة الشرق وسحره .. وكوشك هانم التي خلبت لب فلوبير في رحلته المصرية . والتي تكلم عن مغامراته مع الغواني والمومسات .. انها هي احدى صور العلاقة المتبادلة بين الشرق الفحل والغرب الذي (تموت من البرد حيتانها)
انها بسط لسيرة عربي عكسية تكتسي قدرا من عفة وكرامة العربي إزاء شبق شقراء غلفاء شبقة
 
هذا الموضوع الاثير حول لقاء الشرق بالغرب. خاض فيه الكتاب والروائيون العرب في رواياتهم وشغلهم انطلاقا من كتابات توفيق الحكيم وسهيل ادريس ويحيى حقي والطيب صالح على شكل الانتقام والثأر من المستعمر جنسيا. وكتب فيه الغربيون والمستشرقون على السواء في شكل انبهار بعظمة الشرق وسحره .. وكوشك هانم التي خلبت لب فلوبير في رحلته المصرية . والتي تكلم عن مغامراته مع الغواني والمومسات .. انها هي احدى صور العلاقة المتبادلة بين الشرق الفحل والغرب الذي (تموت من البرد حيتانها)
انها بسط لسيرة عربي عكسية تكتسي قدرا من عفة وكرامة العربي إزاء شبق شقراء غلفاء شبقة

يا لها مِنْ سانحة طيبة أنْ يعلق على إحدى قصصي القصيرة مَنْ هو في قامتك .. العلاقة بين الشرق والغرب لنْ تنتهي .. وأحسب أننا سنرى فِيْ قادم الأيام كتابات تنطلق مِنْ مفاهيم مخالفة لمفاهيم حركات التحرر فِيْ خمسينيات وستينات وسبعينيات القرن الماضي .. وأحسب أنني ساهمت مساهمة المقل فِيْ ذلك .. ليتك تمر على قصتين قصيرتين سبق أنْ نشرتهما هنا في هذا المنتدى العامر تحت العنوانين الدكتور جمال الدين .. و "Sugar Daddy" مع خالص تحياتي أيها الرائع
 
و ردت السّمراء و قالت:
نحن بنات افريقيا..
عز و شرف و حرمة و كرامات..
شامخات شموخ النخلات..
شعارنا : عربيات لا غربيات
و تحية منّا لأصحاب الطربوش و الشاش
و العمامات..

أستاذتي علجية عيش .و التحية لك ولبنات القارة السمراء كلهن .. وبنات العرب أجمعين .. بناتنا عزتنا وتاج راسنا .. شكراً لمرورك الراقي
 
المبدع الرائع صلاح البشير
تحية ومودة
قصة قصيرة متميزة بالقدرة الفائقة على الوصف. وصف الفتاة وجمالها ببراعة الفنان. وتوصيف ظروف العمل. والعلاقات الاحترازية والمحافظة . الجسورة التي تربط البطل بزملائه وخاصة الباردة مع زميلاته . مما دفع بالفتاة الى تأويلها بطريقة غريبة ومربكة . وذلك بروعة ومهارة السارد المتمكن من ادواته.. زد على ذلك ان القصة تتناول مشاكل الكتابة والترجمة.. وما يحيط بما من تقارب وتباعد.. الكتابة التي تتطلب طقوسا خاصة.. والترجمة التي تعتبر كتابة ثانية للنص وتشوبها الكثير من الخيانات.. ليتشعب الحديث حول السلوكات التي تميز الشرقيين عن الغربيين الذين ينمازون بقدر من الانفتاح والحرية . التي نغالي في تقديرها والتموقف منا.. وبيننا كعرب او كشرقيين محافظين
نص سردي جميل وشائق يدفعنا لاستحضار نصوص كتبت في هذا المجال تناقش علاقات الشرق لالغرب .. وهل الشرق رجل والانثى غرب
تحيات

أعجز عنْ الرد وأفخر كثيراً بمرورك الراقي .. إشادتك قلادة علقت على عنقي .. دمت طيباً
 
الأخ المبدع صلاح البشير

قصة في غاية الروعة، تحمل بين طياتها ثقافة أصيلة وخُلق جَمّ. وانسيابية رائعة في السرد. كما تتناول الفهم الغربي البسيط جداً للعلاقة بين الرجل والمرأة. فالمرأة الأجنبية التي تتمتع بهذا الجمال الذي وصفته أنت لايمكن أن تُرفض من قبل رجل سويِّ.. وحقيقة هذا أول ما يتبادر إلى أذهانهن..
القصة كلها رائعة وتزيد بكثافة من ثقافة القارئ..

تقبل خالص مودتي ودمت بعطاء دائم
 
الأخ المبدع صلاح البشير

قصة في غاية الروعة، تحمل بين طياتها ثقافة أصيلة وخُلق جَمّ. وانسيابية رائعة في السرد. كما تتناول الفهم الغربي البسيط جداً للعلاقة بين الرجل والمرأة. فالمرأة الأجنبية التي تتمتع بهذا الجمال الذي وصفته أنت لايمكن أن تُرفض من قبل رجل سويِّ.. وحقيقة هذا أول ما يتبادر إلى أذهانهن..
القصة كلها رائعة وتزيد بكثافة من ثقافة القارئ..

تقبل خالص مودتي ودمت بعطاء دائم

عزيزي الرائع عامر كامل السامرائي .. تحية وإجلالاً .. شكراً لهذه الكلمات المشجعة والمحفزة فِيْ حق هذا النص .. وشكراً جزيلاً لمرورك الوريف الراقي .. دمت بخير
 
أعلى