محمد الصالح الغريسي - قطار المحطّة الأخيرة.. قصة قصيرة

في الهزيع الأخير من الحلم ،كان للزمن طعم الهزيمة ..
و للمكان مرارة السجن ..
كان كلّ ما حولي يرتدي ثوب الغموض، و كلّ من حولي غارقون في هرج غريب
يمشون و لا يبارحون المكان ..
كأشباح الخرافات ، لا يأكلون و لا يشربون ..معفّرة ثيابهم.. مشفّرة عباراتهم .
سألت أحدهم :
هل أنا في حلم أم أنا في كابوس ؟
أجابني و هو صامت :
بل أنت في محطّة القطار تنتظر رحلتك الأخيرة
قلت : و ما هذه المدينة و أهلها الغرباء ؟
قالت صاحبتي التي لم أكن أعرفها من قبل :
لا تكثر من الأسئلة يا عزيزي .. لا أحد يجيبك هنا .. الكلّ مشغول بما هو فيه.
قالت ذلك و انصرفت وسط غمامة من الضّباب، و هي تكلّم نفسها بكلام غير مفهوم.
كلّ شيء هنا غامض .. لا شيء يشير إلى الزّمن .. ليس ثمّة ساعة حائطيّة ..
و لا أحد يحمل في معصمه أو في جيبه ساعة .. بل لا أحد بالمرّة، يسأل عن الوقت..
ليس في هذه المحطّة لافتة تحمل اسم المدينة .. ليس فيها علامات أو أضواء أو إشارات .ثمّة فقط أناس يمشون في مكانهم .. يتكلّمون بعبارات غير مفهومة ..
وجوههم، لا تحمل أيّ نوع من أنواع التّعبير..
المكان يبدو كأنّه محطّة للقطارات بسكّة ذات اتّجاه وحيد .. لا أحد يعرف من أين تبدأ و لا إلى أين تتّجه .. هم أصلا لا يطرحون هذا السّؤال .. الأغرب من ذلك، لا أحد فيهم يحمل أمتعة، و لا أحد يهتمّ بالآخر .. الكلّ يراوح مكانه و كأنّه يسير على بساط متحرّك..
تأمّلت الوجوه .. تصفّحتها وجها وجها، علّني أرى أحدا أعرفه، يمكن أن يخاطبني بكلام مفهوم، أو يردّ على سيل الأسئلة الّتي تدور في خلدي لكن دون جدوى.
مرّ عليّ وقت استحضرت فيه شريطا طويلا من الذّكريات..وجوها و أصواتا،
و ألوانا و أشكالا و مواقف و أحداثا .. لم أكن أدري أهو دهر أم ثوان، ثمّ امّحى من ذهني كلّ ذلك .. لم تبق إلاّ صورة النّاس من حولي يراوحون مكانهم ،
يغمغمون بأصوات غير مفهومة .
لم يطل بي الأمر حتّى زالت حيرتي، و سكت سيل الأسئلة الّتي في داخلي؛ فوجدتني كالآخرين .. أراوح مكاني .. أغمغم بكلام غير مفهوم، و زال كلّ ما في المشهد من غموض.لم يعد ثمّة ما يدعو إلى الاستغراب .. الكلّ يشبه الكلّ .. و الكلّ قد فقد مؤشّر الزّمن.ثمّ ما هي إلاّ أن ارتفع في المكان صوت صافرة حاد، و انتشر ضباب أبيض كثيف، و بدأت الغمغمات تخفت شيئا فشيئا .. و بدأت الوجوه تفقد معالمها .
قبل أن يصبح كلّ شيء صفحة بيضاء و تسكت من حولي الأصوات، سمعت هذه المرّة صوتا مفهوما .. هذا الصّوت أعرفه .. أعرفه جيّدا .. هو صوت زميلتي الّتي تشتغل معي نفس المكتب .سمعتها تقول:
الحمد لله .. لقد بدأ يحرّك أصابع يده اليمنى .
كانت سيّارة الإسعاف تسير بسرعة جنونيّة .. و صافرة الإنذار تدوّي في الأجواء.
حين فتحت عينيّ، كان يحيط بي جمع من الأطبّاء و الممرّضين بأزيائهم الخاصّة .كانت على وجوههم ابتسامة عريضة ..
  • ألف سلامة .. لقد نجوت من الحادث بأعجوبة أنت و زميلتك .. كان سائق الأجرة يسير بسرعة جنونيّة و هو يتحدّث في "الموبايل".. باختصار،كدت تستقلّ قطار المحطّة الأخيرة.
  • ابتسمت لمخاطبي و قلت : ذلك القطار، لا مفرّ من ركوبه، و هو في كلّ الأحوال أفضل من سيّارات الأجرة المجنونة.

محمد الصالح الغريسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى