إدريس على بابكر. - نزاع حول جثة رجل ميت.. قصيرة قصيرة

شاب أبنوسي في العقد الثالث من عمره، أعزبٌ طويل القامة صاحب وجهٍ بشوش وقلبٍ نقي مع ابتسامةٍ ساحرةٍ تبين منها أسنانه اللامعة، أتى من حيث أتى، مجهول الهوية والمصدر، وحيدٌ بلا سند، امتهن المهن الهامشية في المدينة، من خفير مبانٍ تحت التشيد، ونظافة الجناين... إلخ، أجاد حفظ الأمانة والنزاهة والصدق الشفيف، ظنُّوه غريبًا بلا أهل، لكن شيئًا فشيئًا تسرَّب حُبُّه إلى كل البيوت فاتحًا له أبوابها، دخل بشوشًا كنسمات الربيع، انحنت له قلوب الصغار قبل الكبار، أصبح منهم وإليهم، رقمٌ لا يمكن تجاوزه، ونجمٌ يُهتدَى به في خارطة المدينة.
أيامٌ عصيبة، تبدَّلت شخصيته البشوشة إلى قلقٍ دائم، محبوسٌ في سجن الاكتئاب، شارد الذهن، تفكيرٌ عميق وأسئلةٌ بلا إجابة، تلطم وجهه رياح التغيير بالوحدة والعذاب، وقف في مُفتَرق الطرق تائهًا يسأل عن نفسه، أهو مُخيَّر أم مُسيَّر؟! بين العقل والقلب هناك صراعٌ خَفِي لا يضيء عتمة الروح في رحلة البحث عن الحقيقة، بعد أن فكَّر بين أمرين: أن يبقى كما كان على حاله أو يتوكَّل ليختار طريقه الجديد. وأخيرًا حسم أمره بعد صراعٍ نفسي طويل، كاد أن يسقط في هوة عميقة من الشك والظنون.
في ليلة يوم خميس اقتحم دينق منزل رفيقه حمد، أخبره بصوته المبحوح بلا مقدمات أنه يريد أن يعلن إسلامه، نهض رفيقه مخلوعًا، عانقه بكل الاندفاع والحب، بكى معه اللحظة، لم يخطر في باله قطُّ أن يسأله يومًا ما عن دينه، كان مسلمًا بالفطرة وبالمعاملة الكريمة والأخلاق الرفيعة، ذهب به إلى منزل الشيخ وأخبره أن!َ صاحبه يريد أن يُعلن إسلامه، الإمام البدين صاحب اللحية الطويل كاد أن يطير من الفرح، هلَّل ثم كبَّر ثم بكى حتى ابتلت لحيته، ربَّت على كتف دينق ثم أخبره أنَّ دعوات أهل المنطقة الصالحة هي من فتحت عليه أبواب الهدى والإسلام، بفضل أخلاقه العالية وأدبه الجم. دعا الإمام المدعُوّ دينق وصاحبه أن يأتِيا غدًا إلى صلاة الجمعة في المسجد الكبير، وأن يشهر إسلامه أمام المصلين ويُغيِّر اسمه إلى "محمد" خير الأسماء.
اختفت شمس يوم الجمعة، كان الجوُّ ملبَّدًا بالغيوم، أمطرت السماء بغزارة، لم يكن الفصل من أيام الخريف لكنَّها إرادة السماء أعلنت عن تباشير الخريف مبكِّرًا أثناء توقيت الصلاة، كأنَّها تريد أن تستقبل دينق استقبال الفاتحين. بدأت خطبة الجمعة وامتلأ المسجد حتى آخره، لا يوجد به مَوطِئ قدم، تحدَّث الإمام حديث العارفين، خطابًا شيِّقًا وجاذِبًا، استعمل كل فنون الخَطابة، عن فضل الإسلام والمسلمين ثم ارتقى بهم إلى فضاءات التصوُّف والتسامح واليقين، أخبر الإمام المصلين أنَّ شخصًا عزيزًا بينكم سيُشهِر إسلامه بعد قليل، بفضل دعواتكم له بالنية الخالصة، إنَّما الأعمال بالنيات ولكلِّ امرئٍ ما نوى وبعضٌ من الحديث تفوح منه رائحة العظمة، كأنَّه يريد أن ينسب فضل إسلام دينق إلى شخصه، لحظتها ضج َّالمسجد الكبير بالتهليل والتكبير حتى رجع الصدى.
في الجانب الآخر قبل خروج دينق من منزل صديقه حمد القريب من المسجد، اإنتابه التوتر والقلق؛ ربما الانتقال من عبادة إلى عبادة يبعث هذا الشعور المُرتبك والمهزوم، طمأنه رفاقه بعد نطقه الشهادتين سيذهب عنه الخوف والجفاف الديني، سيتخضر حياته بالإيمان بلا رجعة وتدخل السكينة والانشراح إلى قلبه، أثناء عبور الشارع العام كانت أيدي الصديقين دينق وحمد متشابكتين، لحظةٌ مُفعمةٌ بالحبِّ والتألُفِ والإخاء، في لمحِ البصر.. صاحب سيارةٍ قديمة انتهى عمرها الافتراضي، يقودها شابٌّ مخمورٌ طائشٌ بصورة جنونية تصطدم بدينق وصديقه حمد ويطيح بهما خارج الشارع فيصبحان في حالة إغماء، يتحوَّل طريقهما من المسجد إلى المستشفى.
عمَّ الخبر الأليم بيوت المدينة، هرول الجميع رجالًا ونساءً وأطفالًا، حتى المعاقين والمكفوفين كانوا حضورًا في هذه الفاجعة، مزَّقوا الأعذار وتعاطفوا معهما، في المستشفى الحكومي / قسم العناية المركزة، ساعات الحضور في انتظار الفرج الرحيم، يناجون الله بالاستغفار والدعاء ليمدَّ لهما عمرًا جديدًا في شبابهما، بعد ليالٍ وأيام عصيبة شابها التوتر والقلق توقَّف قلب دينق الكبير عن النبض وسلَّم الروح إلى بارئها وانطفت خلاصة الصفاء والطهر، القلب الذي لا يعرف الحسد والحقد، نقيٌّ مثل لبن الأم، وصاحب ضميرٍ أبيض كشعاع النور. كانت عشرة دقائق ثم توقَّف قلب حمد الحنين الذي تذوق معه حلاوة الأيام ومرارتها، لحق بصاحبه كأنَّه يريد أن يقول له: «لن ترحل وحدك يا صديقي سأحلق بك، سويًا إلى سماء الجنان».
أثناء إخراج الجثمانين الطاهرين حدثت مشاداة كلامية بين أهل دينق الذين ظهروا فجأة باعتباره مسيحيًّا من عائلة مسيحية، والجيران ورفاقه باعتباره كان مسلمًا سرًّا قبل أن يعلن إسلامه على المقرَّبين منه، عليه يُدفَن هو وصديقه جوار بعض في مقابر المسلمين. زادت النيران اشتعالًا، كلُّ جماعةٍ تُصرُّ على رأيها بتشدُّدٍ وعناد بدون أدنى حدٍّ للتنازل، المرحوم كان عزيزًا على الجميع، ملاسنات أيقظت الفتنة من بعض المتطرفين وفشل العقلاء في السيطرة على الموقف، تحوَّلت الملاسنات إلى الشتائم ثم الضرب بالعصي واللكمات، عمَّت الفوضى والهرجلة المكان، سالت الدماء العزيزة بين الطرفين، أتت الشرطة على جناح السرعة إلى مسرح الحادث وأخذت جنازة دينق بالقوة الجبرية مع بعض المتَّهمين إلى الحراسة، بعد فترةٍ قصيرة أطلقوا صراح المتَّهمين بالضمان، وحتى تاريخ اليوم لا يعرف أهل المدينة إلى أين ذهبت الجثة وأين دفنت؟ هل صادرتها الحكومة ودفنتها إلى جهة مجهولة؟.. رجلٌ ببساطةٍ وطيبةٍ أسر قلوب الناس، بعده لم تخمُد نيران الفتنة، لكن حياته القصيرة المثيرة للجدل ستظل ذكرى جميلة وخالدة في وجدان المدينة، التحريات أثبتت أن هذا الرجل لا يملك أي إثبات هوية أو مستند غير شهادة وفاته الذي يحمل اسمه، حتى تاريخ هذا اليوم ما زال الجدال والسؤال مستمرين في مجالس المدينة بعلامة استفهام كبيرة وحيرة هل دينق مسلم أم مسيحي؟ الرجل كان ينبع حبًّا ويتدفَّق إنسانيةً بانسياب.

إدريس على بابكر.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى