إدريس علي بابكر - أبو كرنكي.. قصة قصيرة

إثر وخزةٍ غير مُتقَنةٍ لحقنة تطعيم السحائي على مؤخرتي، أصبحتُ أعرجًا منذ طفولتي الباكرة، هذه العاهة المستديمة حرمتني أن أحقّق حلمي بالالتحاق جنديًا بالجيش أو بالشرطة مثل بقية أندادي، لم يكن لدي كثير من الخيارات العملية المتاحة بسبب تواضع مستواي التعليمي، استوعبني المستشفى الحكومي عامل نظافة في شرخ شبابي، فرحتي كانت عظيمةً بتبوُّء هذه الوظيفة بعد فترة العطالة المملة والقاتلة، والتي بسببها كدت أن انجرف إلى عالم الجريمة أو أكون خريج سجون، لكن جذبني الخير إلى الاتجاه الصحيح، أعمل بجدٍّ وإخلاص، لا أجد حرجًا في نظافة الدماء المتجلطة والصديد وقيء المرضى، والحمامات المُتَّسخة بالبراز والبول من إهمال الأطفال والعجزة المسنين، ثم فتح المنهولات والمجاري وجمع الأوساخ، ذو همة ونشاطٍ عاليين، لا يُكبِّل يدي الكسل، طويل البال روحي لا تعرف الملل ولا أعرف للتسكع طريقًا، أحُبّ الناس والمرح مع الرقص والغناء بلغتي الأم، كل الموظفين يعرفونني جيدًا، لكنهم غالبًا لا ينظرون إلى جانب إنسانيَّتي المضيئة؛ معظمهم شعورهم نحوي ليس سوى مجرَّد آلةٍ لخدمة أغراضهم، بالأخص الطبيبة الشابة آلاء المغرورة، هي تملك كل شيء من مالٍ وجمال، بنتٌ دلُّوعة، لا ترى العُمَّال أبعد من أرنبة أنفها.. بالنسبة لها دورهم مثل إطارات السيارات التي لا تشتكي من مشاوير السائق. نشأ بيني وبينها عداءٌ سافر، خصامٌ بلا سبب يستحق، نادتني بعجرفةٍ وتعالٍ.. أشارت بسبابتها: «تعال يا أبو كرنكي».. أتيت إليها بكل أدب واحترام، تمدُّ مخارج الحروف بصورة لحنية حادة، هكذا حديثها مع الآخرين.
قالت: «لو سمحت، ممكن تنضف لي سيارتي؟ عندي مشوار المساء ».
رفضت الأمر جملةً وتفصيلًا، أخبرتها بكل صراحة أنَّ مدّة دوامي بالعمل قد انتهت، وأنّي أعمل لدى الحكومة فلا شأن لي بالأمور الخاصة، لحظتها شعرتُ بأنَّ هذا الكلام قد جرح كبرياءها.. عكَّرتْ مِزاجي، جلستُ تحت الشجرة الظليلة في انتظار أحد زملائي، سمعتها تُحدِّث زميلتها شذى..
قالت: «كلَّمت العبّ المُفتري أبو كرنكي عشان يغسل لي العربية رفض.. اتخيلي؟!"
لكزتها شذى، حاولت أن تلفت انتباهها بأنَّني خلفها، شعرتُ بجروحٍ عميقة، تعطَّل الكلام في لساني؛ بأيّ صفةٍ أكون عبدًا ونحن شركاء في كتابة تاريخ هذه البلاد العزيزة! دونما أن أشعر دفعني الغضب الأعمى، وجدت نفسي بالقرب منها فاجأتُها بصفعةٍ قوية على خدِّها الندي حتى أجهشت بالبكاء.. تدخَّل طبيبٌ أسمر وسيم الطلعة من قسم الباطنية والجراحة اسمه هيثم، وبَّخها، ناصرني ووقف إلى جانبي وأجبرها على الاعتذار لشخصي، مرّ الحادث عندي كسحابةٍ عابرة لكنها أضمرت لي شيئًا من الكراهية في قلبها.
سنينٌ من العمل المتواصل والمُرهق لم أنقطع عن العمل، إلا بعد أن سمعت بخبر وفاة أختي الأرملة في مناطق النزاع بطلقة طائشة وهي حُبلى في شهرها السابع، تركت خلفها طفلين يتيمين، توافد زملائي العمال الكادحين والموظفين أصحاب الياقات البيضاء للتعزية في منزلي، إلا الطبيبة آلاء غابت عن الحضور.
بعد أيام رجعت إلى عملي المعتاد، الحزن العميق في دواخلي قصَّ أجنحة مرحي، أصبح وجهي كئيبًا؛ أفكر في أطفال أختي بأن أجلبهم إلى المدينة، لم يكن لدي ثمن تذكرتين لأبعث إليهما.. لا أملك أكثر من قوت يومي، بينما كنت سارحًا في محنتي، أتى دكتور هيثم مثل الإلهام.. انتشلني من إحباطي وتكفَّل بثمن التذكرتين، رجلٌ شهمٌ محبوبٌ لدى العمال، داعمٌ لهم في كل كبيرة وصغيرة، يدافع عن حقوقهم المهضومة والمسلوبة فصار جزءًا منهم. بعد حادثة الطبيبة آلاء نشأت بيني وبينه علاقة قوية امتدت على المستوى الاجتماعي.
من منطقة الحرب حضر الطفل (بمبو) برفقة أحد أقربائي إلى المدينة، بينما اختارت أخته البقاء مع عمتها، فور أن رأيت ابن أختي اندفعت نحوه بحماسٍ وشوق، بكيت بحرقة، لكنَّه ظلَّ جامدًا كحجر! لم يحرِّكه شغفي ولا دموعي الغزيرة، طفلٌ بائس الوجه صارمُ الملامح صاحبُ عيونٍ ضيِّقة، كانت الحرب اللعينة قد سرقت منه طفولته البريئة؛ لا يُمكن أن يشتكي وهو جائع، يحب العنف اللفظي والجسدي. عزمت معاملته باستثناء وبعاطفة جياشة، هو يتيم الأبوين، أحب أن أدافع عنه، أجد له العذر لحماقاته المتكررة. لا أميل إلى ضربه وقت الخطأ حتى التوبيخ يأتي لينًا عكس معاملتي لأبنائي؛ وقد خلق ذلك مناوشاتٍ وجَفوة كبيرة بيني وبين زوجتي كادت أن تصل إلى الطلاق.
في عامه الأول، بمبو وجد صعوبةً بالغة في إتقان اللغة العربية بينما يجيد التحدث بلغته الأم بطلاقة وسلاسة، تلتبس عليه المعاني فيخلق عداوةً من العدم مع الجميع، عمِل (كمساري) لبعض الوقت، لكن بفعل أسلوبه الجاف مع الركاب طُرِد من العمل ثم عمل ماسحًا للأحذية، ثم بِحَثٍّ من دكتور هيثم، أوصاني أن أدخله المدرسة ليتعلم، فأدخلته المدرسة. كان دكتور هيثم كثيرًا ما يقول لي: "أنت أذكى مني ومن هؤلاء الأطباء لكن لم تُعطِك الحياة فرصة، لذا عليك أن تعطي هذا الولد فرصةً لينال حظَّه من التعليم، ربما يكون له شأنٌ عظيم في المستقبل".
دخل بمبو المدرسة الابتدائية.. يبدو أكبر حجمًا من أقرانه، استخرجت له شهادة تسنين فلم أكن أعلم عمره بالضبط، قالت لي جدتي أنه مولود يوم المعركة الطاحنة خلف الجبل بين الجماعة المسلحة والقوات الحكومية.
في السنة الأولى من العام الدراسي، اكتشفت ضعفه اللا محدود في التحصيل... درجاته في كل المواد مُعنوَنة بشكلٍ دائري بالقلم الأحمر، في العام الثاني والثالث تحسّن مستواه قليلًا. لقد أتعبني كثيرًا من مشاغباته في الحي وفي المدرسة، ورَّطني في كثيرٍ من المشاكل ولكني ظللتُ صابرًا على حماقاته التي لا تنتهي. كنتُ في مقر عملي أنظِّف أرضية المستشفى غارقًا في همومي، تلاشى الغناء الجميل من صوتي، لفت انتباهي دكتور هيثم كعادته يسأل عن أحوالي رغم الفارق التعليمي والاجتماعي الشاسعين؛ هو من أعز أصدقائي، سألني عن الطفل بمبو، أخبرته أنه ينتظر أن يُكمِل المرحلة الابتدائية ثم يلتحق بالجيش أو ينضم إلى أي جماعةٍ مُسلَّحة، أجابني البدايات دائمًا صعبة؛ توجد فوارق كبيرة بين المدينة ومناطق الحرب، عليك أن تُشجِّعه، الاستثمار الحقيقي في القلم وليس في السلاح، بكل أُذُنٍ صاغية سمعت حديثه القيم، ثم صرت أشجِّع بمبو بكل حماس.
في أواخر العام الرابع استلمتُ خطاب استدعاءٍ من المدرسة بخصوص ابن أختي، انتابني حرج بالغ بسبب عصبيته الزائدة، أتذكر يومها عندما دفع مدير المدرسة حتى سقط أرضًا وانكسرت نظارته، أوشك أن يُفصَل عن المدرسة بسبب سوء سلوكه، لو لا توسُّلي لإدارة المدرسة ووعدي بألَّا يتكرر منه هذا الفعل مرةً أخرى. ذهبت إلى المدرسة مُكِبًّا على وجهي.. فور أن دخلت مكتب مدير المدرسة، ولدهشتي البالغة، استقبلني المدير ببشاشة على غير العادة مما خفف من شكِّي ورهبتي، بعد الضيافة عرج إلى الموضوع، فاجأني بِتهنِئته لي، تحصَّل بمبو على أعلى درجة في المدرسة بالعلامة الكاملة، وأردف وهو يبتسم: «هذه النتيجةُ ثمارُ مثابرتكم واجتهادكم». أكاد لا أصدِّق؛ أول مرة في حياتي أتذوَّق طعمًا للنجاح.. كدت أطير من نشوة الفرح، من تاريخ ذلك اليوم تفجَّرت عبقرية ومواهب ابن أختي من واحةٍ لواحة، تأثيره كان كبيرًا على أبنائي.
رجعت إلى مقر عملي مُنتشِيًا كأنِّي مولودٌ من جديد، أودُّ أن أُخبِر صديقي الدكتور هيثم؛ فهو الداعم الأول لهذا النجاح الباهر، أيامٌ وأنا أسأل عنه في كل المكاتب، لم أجد له أثرًا، هاتفه مُغلق، غاب عن المشهد من يوم إضراب الأطباء، دوَّنت عائلته المكلومة وأصدقاءه بلاغاتٍ عن اختفائه في ظروفٍ غامضة، اختفى صديقي من مسرح الحياة كشمعةٍ طفتها رياح المصائب إلى المجهول وظلام الضياع ولم نلتقي مرةً أخرى.
تركت العمل بفضل تفوُّق أبنائي في شتى الضروب، ظِلُّ النجاح مَنَحَنِي الراحة عِوضًا عمَّا سرقه الشقاء من تعب العمر، بفضل صديقي الغائب الحاضر الآن بمبو الفنان بريشته البديعة يصنعُ الجمال دهشةً، يمنح وجه المدينة ألقًا وفنًّا، بينما أنداده في مناطق الحرب أياديهم على زر البنادق تلطَّخت بالدماء، قتلٌ وانتهكاتٌ وسعت دائرة الحرب، لم يهبط رسول السلام ما زالت الحرب مستمرة لحين إشعارٍ آخر.
إدريس على بابكر


* من المجموعة القصصية للحزن أجنحة سوداء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى