إدريس على بابكر - حُسن سَيْر وسُلوك.. قصة قصيرة

عانت مدرستنا الابتدائية في ضواحي المدينة من إهمالٍ مريب، نقصٍ من المعلمين ومن مقاعدِ الجلوس، تصدَّعت الجدران وآل سورها إلى السقوط، لم تُوفَّر أدنى بيئة مدرسية؛ لا تُعرف بأنَّها مدرسة إلَّا من لافتةٍ على بابها. اقتادونا إليها حتى لا تُلاحِقنا اللعنات خارجها، كان أبناء الأثرياء يسخرون من تواضعها فأطلقوا عليها اسم «حوش البقر» كنايةً بأنَّنا سنكون ضحايا المستقبل، لم يكن هنالك دفترٌ لتسجيل الغياب، بعض التلاميذ يختفون قُرابة الشهر بدافع التسيُّب، أو العمل، أو المرض، وهلمَّ جرا، ولا أحد يسألهم عن أسباب غيابهم بعد عودتهم. كنَّا نشعر أنَّ المعلمين مجبورون على التدريس؛ لم يهتموا إطلاقًا بمدى استعابنا وتطوُّرنا، أصبحنا مجموعاتٍ متفرقة غير مُتجانِسة نصنع الضجيج والفوضى، مدرسةٌ غارقةٌ في الضياع إلى آخر أذنيها، لم يطرق الأمل بابها.
في بداية عامٍ دراسي حلَّ علينا مديرٌ جديدٌ نحيفٌ فارعُ القوامِ ذو شعرٍ كثيف وشاربٍ كثٍّ كقبطان السفن، تقريبًا في العقد الثالث والنصف من عمره، يُدعى عبد الجليل، جمع كلَّ المدرسة من معلمين وتلاميذ وعاملين، تحدَّث عن واقعنا الكئيب بإسهاب وعن إمكانية الحلول بالإرادة القوية، وأنَّه لتغيير الوجه القبيح لمدرستنا علينا ألَّا ننتظر الحكومة فهي لن تأتينا لتصنع لنا عالمًا ورديًّا، وإذا ذهبنا إليها لن نجد غير الوعود الكاذبة، لذا الحل في أيدينا، «إيد فوق إيد تجدع بعيد». ثم عرج إلى الصحة المدرسية وأهميتها في الحياة ووجوب التزام الجميع بالنظافة العامة. لا ندري ماذا فعل بنا هذا الرسول، عبَّأ القلوب بالحماس فانهالت الأيادي بالتصفيق الحار، كأنَّ سِحرًا تملَّكنا، نفض عنَّا غبار اليأس فنظرنا بأملٍ إلى غدٍ مشرق. أوَّلُ ما قمنا به هو نظافة المدرسة، حتى التلاميذ الكسالى قد سرى في دمهم النشاط، ثم قمنا بتأهيل المدرسة وترميمها بالتعاون. كان يقول لنا: «إنَّ التفكير الجماعي يُبسِّط الحلول ويُسهِّل عثرات الطريق، أبعِدوا عن أرواحكم الأنانية فالاتحاد قوة». قوَّمنا السور، بنيناه بسواعدنا الخضراء وكان هو المشرف والمشارك الأساسي في العمل، بأبسط الإمكانيات المتاحة صارت مدرستنا جميلةً ونظيفةً وجاذبة مثل بقية المدارس، من غرفة الإنعاش دبَّت فيها العافية، أصبحنا جميعًا نعتزُّ ونفتخر بها ولا نحب أن نفارقها إلا للضرورة القصوى ونحِنُّ إليها بشغفٍ أثناء الإجازات.
مُعلمنا الجليل فنَّانٌ بارِعٌ يُجيد العزف والغناء ويقرض الشعر، لذا اهتمَّ بالفنون والرياضة فوجد كلُّ تلميذٍ إبداعه بالمجال الذي يتفوق فيه، شاركنا في مسابقات الدورة المدرسية مُتألِّقين في حين كنَّا في السابق نخرُج من الأدوار التمهيدية؛ تفاجأ المشرفون بحصولنا على المركز الأول في المسرح عن جدارة واستحقاق، ثم تُوِّجنا بكأس مَنشط كرة القدم، ولم نغِب في بقية المشاركات عن مِنصَّات التتويج!.. زحفنا أكاديميًّا بقوة إلى المراكز المُتقدِّمة وأُدرِج اسم المدرسة بلوحة الشرف، الفضل يعود إلى معلمنا الذي فجَّر طاقاتنا الكامنة نحو الإبداع والابتكار، إنسانٌ بشوشٌ هادئ الطبع متواضعٌ متفائل، قبل أي درس يُعطينا الثقة لكنَّه لا يُسامح أبدًا في الكذب والنفاق.
ذا يومٍ في الطابور الصباحي بعد البرنامج الثقافي فاجأنا معلمنا الوسيم بخبرٍ لم يكن في الحُسبان، يا إله العالمين.. أعْلَن الفارس عن ترجُّلِه!.. خبرٌ صادمٌ ومُوجِع.. إنَّها غَصَّةٌ في الحلوق، هُدِرت الدموع من العيون؛ عمَّا قريب سيرحل إلى الخليج مُنتدَبًا، ربما لن نراه مرةً أخرى! حاولنا مرارًا وتكرارًا أن نتقبَّل الأمر، صعبٌ علينا تخيُّله وكيف سيصبح حال المدرسة بدونه، اجتمعنا برغبتنا على أن نُقيم له حفل وداعٍ بهيجٍ يليقُ بقامته السامقة، كان أعظم يومٍ حزينٍ في حياتنا، على خشبة المسرح بحضور لفيف من المعلمين وأولياء الأمور، كرَّمْنا مُعلِّمَنا على أحسن ما استطعنا، رقرقت المآقي بالدموع، ثمَّ سافر معلمنا طيرًا مُهاجِرًا خارج البلاد، ربما سيزرع هناك الفرحة والبهجة ولكن هنا تركَ خلفه ذكرى معطونةً بالأسى ومرارة الرحيل.
بعد ذلك جاء بديلُه المُعلِّم ضرغام، مربوع القامة صاحب لحيةٍ كثَّةٍ، أصلع الرأس حادُّ النظر، يرتدي دائمًا بنطالًا قصيرًا يكشف عن جزءٍ من ساقيه المنفرجتين، تحوَّلت المدرسةُ في عهده بالقيود الصارمة إلى أشبه ما يكون بالثكنة العسكرية، من شدة الخوف يُخَيَّل إلينا أنَّا نمشي على حبل. كرَّس جُلَّ اهتماماته في الجانب الأكاديمي، يؤمن بالجلد كأسلوبٍ للإقناع، مات المسرح المرآة التي كنَّا نرى فيها أحلامنا، توقَّف العزف ويبِسَت الأشجار، رأيُه صريحٌ وواضحٌ بحُرمَة المعازف، يقول أنَّها من أفعال إبليس، والرياضة بالنسبة له مجرَّد لهوٍ لا يُسمِن ولا يُغنِي من جوع. هبَّت رياح الجفاف فحصدنا نتائج كارثية في كل المسابقات، تدنَّى مستوى النجاح بشدة، لم نجد معلمًا يرفع لنا روحنا المعنوية، بل من شدَّة الإحباط تعلمَّ التلاميذ دروب الزوغان وادِّعاء المرض خوفًا من العقاب، وانعدمت الرغبة بالمجيء إلى المدرسة، فمنهم من تركها وآخرين حُوِّلوا إلى مدارس أخرى.
في أحد أيام الصيف الساخنة بعد وجبة الفطور كانت الأجساد الهزيلة تنِزُّ عرقًا وتُقاوِم النعاس بسبب تناول الفول، تملَّكهم الخمول وفقدت العقول تركيزها فشردت بعيدًا عن أجواء الحصة، فجأةً انتبه الجميع لصراخ امرأةٍ تصرُخُ بأعلى صوتها ثم تبكي بحرقة بالقرب من مكتب المعلمين، دفَعَنا الفضول للتلصُّصِ بالشبابيك، إنَّها فرَّاشة المدرسة تكتحُ التراب فوق رأسها وثوبُها مجرورٌ على الأرض والمعلمين يُواسونها، فور أنْ علِمنا أنَّ معلمنا السابق عبد الجليل قد تُوفِّي في حادثِ حركةٍ في الخليج تدفَّقنا كالطوفان خارج الفصول، كَسَرنا كلَّ قيودِ المدير، تحوَّلت المدرسة إلى سَرادِق عَزاء، أغلقت المدرسة أبوابها حدادًا على معلمنا الجليل، لم يكن المدير يُؤمِن بهذه الطقوس الدينية ولكنَّ حُزننا الكبير طغى على الرسميات، ثلاثةُ أيامٍ نحن في منزل المرحوم نُقدِّم الخدمات للضيوف، لقد ترك بصمته في كل المدارس التي عمِل بها، لذا كانوا حضورًا في مأتمه، لقد خطف الموت نوَّارة الحقول ويا حسرتنا لقد مات في الغربة بعيدًا عن وطنه ومُحبِّيه.
صار إيقاعُ المدرسةِ حزينًا في ونساتِنا الجانبية، لا يمرُّ علينا يومٌ إلا ذكرنا معلمنا الراحل بالحبِّ والوفاء. لم يمكث المعلم ضرغام معنا كثيرًا في إدارة المدرسة، تفاجأنا ذا يومٍ بغيابه، سألنا عنه عندما طال الغياب فقيل أنَّه ذهب إلى الجهاد في سبيل الله، لم يودِّعنا ولم نره مرةً أخرى، لقد بنى النسيانُ بيننا سورًا عتيقًا. بعده أُرسِلت إلينا معلمةً شابة، وقد كان من الغريب إرسالُ معلمةٍ إلى مدرسة الأولاد، كيف لها أن تُسيطِر على هؤلاء المشاغبين! نظرنا إليها بعين الاستخفاف وما هي إلَّا أيامٌ وتعود إلى أدراجها من حيث أتت. مضت الأيام ولم نلحَظ خوفها من خوضِ هذه التجربة، تبدو ذات شخصيةٍ مُتمرِّسةٍ واثقةً بنفسها، تريَّثت لتفهم نفسياتنا العميقة وسلوكنا الذكوري، بعدها بدأت معانا برنامجها التعليمي، برغم أنوثتها الطاغية على شخصيتها إلَّا أنَّها تجمع بين الحزم واللين، اكتشفنا بداخلها الجمال الباذخ وجداول من الحنان، كانت الجدران ترخي أذنيها لتسمعها، هي الأم التي لا تَرفُض لها طلبًا والأخت التي تُسانِدك في المحن والصديقة التي تُقاسِمُك الأفراح والأحزان، منها تعلَّمنا كيف نحترم المرأة، ألجمت عِنادنا وأحببنا فيها حتى لومها وعقابها، فتحت لنا نوافذ الجمال فغرسنا الشتول والزهور على أرجاء المدرسة ثم كوَّنت لنا مكتبةً ثقافية نتبادل فيها الكتب؛ تحوَّلت شخصياتنا العدوانية الطائشة إلى مرِحةٍ في ظلال الحِكمة.
تمنَّينا لو التقى معلمنا المرحوم عبد الجليل بالمعلمة إلهام في زمنٍ واحد؛ لاعتلَيْنا أعلى مراتب الجمال والأخلاق وعزفنا أنشودةً خالدةً على مسرح الحياة، ولكن تعلَّمنا من مسار هذا الكون أنَّ الشمسَين أبدًا لا يلتقيان.

إدريس على بابكر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى