عزة بدر - نفس المكان

يلح فى تغيير مكان اللقاء .. ربما ضاق بالنادل الذى يمر عليهما كل خمس دقائق ليسأل
- أتريدان شيئا ؟
- هل كل شىء على مايرام ؟
ربما شعر بالسأم من أعين صاحب الكافيتيريا وهما تختلسان النظر إليها .. ربما يريد فى هذه اللحظة أن يختزنها تحت جلده ! أو يغلق عليها أزرار المعطف ثم لايفلتها فلاترى أحدا ولايقع بصره عليها إنسان .. ضاق بالمقاعد نفسها بلونها المعتاد وبالمناضد المثلثة حادة الأطراف كطعنات توشك أن تسدد إليه هو شخصيا .. لم يفلح فى احتجازها خلف منضدة ركنية فيستطيع أن يلامس يدها دون أن يلمحه أحد لأنها طلبت الابتعاد عن مرمى التكييف .. دائما تبترد .. يود لو يخلع معطفه ويدثرها ولكنها ربما تتمسك برعشتها خوفا من نظرات الآخرين .. تبدو متحفظة معه لكنه يدرك أن وراء هذا التحفظ حنانا غامرا هكذا يهمس لنفسه .. يسألها :
أمكنة كثيرة أعرفها .. لماذا لانغير المكان ؟
تبتسم .. تتسمر فى مقعدها .. تتشبث بالمنضدة كأنها ولدت إلى جوارها .. تتعلق عيناها بإناء الورد الذابل بمائه القديم ورائحته النفاذة , تتلمس مفرش المنضدة وتعاود الابتسام يحترم صمتها لايثقل عليها ولكنه يتساءل مالها ؟ ألاتحب التغيير ؟ , هل أحبت هذا المكان بالذات لأنه شهد مواعيدهما ؟
هو يحب التغيير .. يسأم الأمكنة بسرعة , يتململ .. يقرصه الكرسى .. تضايق ركبتيه المنضدة , ولايستطيع أن يفسر صمتها أما هى فكانت تخشى أن يغيرا المكان ..ستصبح
هذه الأمكنة جروحا فى قلبها ذات يوم , لاتريد له أن يسد عليها طرق المدينة بذكرياته .. تريد أن تجمع لحظاتهما معا فى مكان واحد لتتجنب فيما بعد المرور عليه , الباب الزجاجى المتحرك سيدمى أصابعها حين تدلف بين جوانبه ذاهلة , يتخبط وجهها فى زجاجه مثل عصفور فقد الإبصار فجأة ووقع فى الشبك , يقينا ستضيق بها الدنيا وتجرى وراءها الأمكنة لو ذهبت معه إليها , تريد أن تضبط حركة أقدامها معه , تراوح فى نفس المكان , ترسم لنفسها خطا أحمر لاتجاوزه .. تقف عليه بثبات .. تخشى ماهو قادم , تحسب حساب الألم عندما تفترق اليدان وتفرقهما منافع الدنيا .. سيبقى الحب فى قلبها طعنة كما كان دائما ثمرة لاذعة تخاف أن تقربها .. شرابا كاويا تتشهاه وتخشاه معا .. جروحا .. جروحا سيكون الفراق الذى لابد آت , عصفورا طليقا كان هو دائما يغيرشجرته وفرعه باستمرار .. لن يبقى على شجرتها للأبد , يحيا بطريقة مختلفة .. يفتح قلبه على الجهات الأربعة .. يؤمن أنه لايقين فى الحب , يطلق دقات قلبه بحرية فى الهواء الطلق مثل أوراق مقصقصة وملونة وعليها أن تجمع منها مايتناثر فوق كفها أو ما تتشبث هى بالإمساك به .. ماينثره فى السماء ويقع على الأرض من ورق ملون يستلفت غيرها أيضا تعدو كل واحدة وراء ورقة ملونة تفتح طياتها لتقرأ : " أحبك " , أو " أنت عمرى " بينما الأوراق خالية تماما من إمضائه .. يبخل به دائما وينسى أن يضع بكل ورقة سوليفان قطعة من الشيكولاتة .. ينسى دائما , والنساء يلتقطن الكلمات الحلوة بمهارة الحرمان .. يقنصنها خالية فيبتسم ويحرك رأسه يمينا ويسارا بثقة .. أحيانا يشفق عليهن من الأوراق الخالية ولكن لماذا يمهرها بإمضائه وهن يعدون وراءها خالية ؟
وهاهى لاتريد أن تجرب مكانا جديدا , لاتريد لمائها أن يتغير , لاتريد لروحها أن تتقد تتسمر فى مقعدها , يود أن يقول لها : يوما ما سيقع الفراق .. سيذهب كل منا إلى حال سبيله فلماذا لانجرب الأمكنة ونملأها صخبا .. هى الدنيا هكذا ياحبيبتى صخب وصمت ثم صمت وصخب .. لندلف من جميع الأبواب الزجاجية وتتخبط رؤوسنا .. لنجرح أيدينا وقلوبنا .. لنتفطر حزنا وننفجر غضبا ولنصرخ عاليا : الأمكنة التى لاتريدنا نريدها ! .. نعشقها فتطاردنا إلى خارج المدينة , نعدو وراءها فتفر منا , لكل مكان طعم ورائحة , لكل مكان ذكرى مدوخة .. هنا برتقال فى كأس زجاجية وهناك شاليموه متروكة ببصمات أحمر شفاه , أعقاب سجائر .. وأدخنة .. روائح ثقيلة وخفيفة .. عطر فاغم ورائحة عرق .. بقايا أغنية , هنا المقاعد الخالية والوسائد المهجورة .. هنا جلسنا ذات يوم وبعد حين نفترق , سمعت موسيقى النهاية .. رأت خطاها الوئيدة .. وجدت نفسها وحيدة تذهب إلى نفس المكان .
تتسع لها الأمكنة ولكنها لاتريد إلا نفس الموضع ونفس المنضدة والمفرش وإناء الورد الذابل والماء القديم ذو الرائحة النفاذة .
تضيق بها الدنيا .. تأكلها عين صاحب المحل ويمر بها النادل ليسألها :
- أتريدين شيئا ؟
- هل كل شىء على مايرام ؟
تعتصر قلبها الأسئلة .. تنظر إلى مقعده الخالى وتشتهى لو ذهبت معه إلى كل الأمكنة ليصبح العالم أكثر سعة جديرا بالذكرى .
يوما ما ستكتب على جسد الكرة الأرضية .. تماما عند خط الاستواء : "كنا هنا " , وحول حزام الزلازل : "كنا هنا "
يوما ما تهمس للبراكين الخامدة : " هنا .. هنا "
كنا نملأ الدنيا بالخوف والصمت .. بالحب والأسئلة .

الدكتورة عزة بدر
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى