مناف كاظم محسن - حادث

وصل متأخراً. فتح الباب فأطلق صريراً عالياً أحسّهُ نذير شؤم، دخل الى المنزل شاعراً بالقلق وتأنيب الضمير لعدم وفائه بالوعد الذي قطعه لامّه صباح هذا اليوم عندما قالت له: -
- انني اليوم لست على ما يرام ابقَ معي.
- لن أتأخر سوف أنهي بعض الأعمال وأعود.
لم يجدها، ناداها فلم يسمع جواب. رفع صوته ونادى (إمّاه) مرة اثنتين ثلاث مرات لكن الصمت هيمن على أجواء المنزل. أسرع الى غرفتها، طرق الباب بهدوء خوفاً أن تكون مستغرقة بالنوم فيزعجها، لم يسمع ايّة إجابة. فتح الباب بتوجس وقبل أن يدخل انعصر قلبه. وجد سريرها فارغاً فسرت الرجفة في جميع انحاء جسمه. ركض يبحث عنها في الصّالة، في المطبخ، في الحمام، في أيّ مكان آخر لكنّه لم يجدها. أضنته الحيرة والخوف من الأسئلة المخيفة، فجلس على الأرض بجانب سريرها واضعاً رأسه بين ركبتيه مستنشقاً رائحتها الزكية المنتشرة مع ذرات هواء الغرفة. وقبل أن يأخذه خياله المشتت الى تصورات تترك الحزن العميق وتهيج البكاء وتثير الرغبة في محاسبة النفس عن الإهمال المقصود او غير المقصود رَنّ هاتفه النقال. رد بسرعة، كان صوت اخته قد أنقذه من هواجسه المخيفة لكن صوتها كان مبحوحاً تخنقه العبرة، أخبرته وهي تبكي أنّ امّهم بين الحياة والموت في العناية المركزة. ثم ارتفع صوتها تؤنبه وتحاسبه على أفعاله الخالية من الإحساس بالمسؤولية (كيف تترك إمّي لوحدها، اتصلتْ بي كانت متعبة جداً. تنطق الكلمات بصعوبة وعندما وصلنا إليها أنا وزوجي وجدناها لا تستطيع الحركة ولا الكلام. أخبرنا الدكتور إننا قد تأخرنا وحالتها خطيرة).
تمنى أن يرجع به الزمن الى الوراء، كي يبدأ من جديد في تغيير الكثير من الأخطاء التي حدثت دون قصد طيلة حياته، تمنى أن يرتمي في حضن إمّه ويبكي ندماً طالباً منها أن تسامحه وتغفر له كل خطأ أخطأه بحقها وكل إهمال بدر منه. والذي لن ينساه ابداً تلك النظرة التي ودعته بها صباح اليوم عندما رفض البقاء معها، نظرة حزينة فيها من العتب والرجاء ما يجعله الآن حاقداً على نفسه، خجلا شاعراً بأنه اناني الى درجة لا يمكن وصفها. كانت لحظة مختلفة جدا عندما وجد نفسه ضعيفاً امام ضميره الذي أمطر عليه سيلا من الاهانات فطأطأ رأسه مستسلما لحسابات ضميره الذي لا يرحم.
ركب سيارته وتحرك مسرعاً الى المستشفى عازماً على أن يصل بسرعة ولا يتأخر كعادته. كلّما فكّر انّه لن يراها مرة أخرى ولم يبق له الوقت الكافي للاعتذار زاد من سرعة السيارة. فقد السيطرة على انفعالاته وعلى تشتت أفكاره. الكثير من الذكريات القديمة التي كان قد نسيها انهمرت عليه كالمطر، والكثير من الخيالات المشؤومة التي تُنبِئه بما سيحدث قد هيمنت عليه. بكى رغم انّه حاول الا يبكي وهو يقود السيارة. لكن الدموع النازلة من عيونه قد شتتت الرؤيا فلم يعد يرى الطريق واضحاً. وانتبه في تلك اللّحظة المشحونة بالمشاعر المتأججة والانفعالات الثقيلة على قلبه بأنه قد تلاشى وصار مجرد إحساس او انفعال لكنه خارج الزمن، وخارج المكان ربما في العدم، لم يكن متأكداً. استغرق الأمر ثوان قليلة مشتتة ثم رن هاتفه النقال، وأول ما رأى ان المتصل اخته أجاب بسرعة دون أن يخفف سرعة السيارة. ارتفع صوت اخته عبر الهاتف (ماتت إمّي ماتت). وقبل أن يستوعب الخَبر ركض طفل يعبر الشارع من أمام السيارة كأنه الضباب. أدار مقود السيارة بسرعة محاولاً ان لا يدهس الطفل فانحرفت عن الطريق وصعدت الى الرصيف بسرعة جنونية ثم انقلبت وتدحرجت على الرصيف كالكرة وارتمت بعيدا عن الشارع.
فتح عينيه فوجد نفسه في المستشفى ممددا على السرير الحديدي. شعر برأسه ثقيلا كأنه قد عاد من عالم آخر هلامي لا يعرف عنه شيئاً. أوّل ما رأى إمّه التي ابتسمت له وانحنت عليه وقبلته على جبهته بعد أن مسحت بيدها الحنونة على رأسه الملفوف بالضمادات. ثم رأى اخته وزوجها وآخرين كانوا ملتفين حول سريره. لم يعرف كيف يخبر إمّه انه سوف يتأخر ولن يلحقها قبل ان تموت.

مناف كاظم محسن
22-8-2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى