عبدالرحيم التدلاوي - وحول

كان الصراع بيننا محتدما، تشتعل ناره ولا تنطفئ إلا بانطفاء المواجهة، وقليلا ما تنطفئ إذ يمتد لهيبها إلى جدران الحي الذي يتحمل بشهامة صبيانياتنا، وسبابنا العاهر..
كان يمتلك الكرة، وهي رأسماله الذي به يستقطب الأصحاب، ويبعد الأعداء، وحين لا يجد بدا منا لنواجهه، يسمح لنا باللعب بكرته العزيزة، لكن، بأن نكون خصومه، وهو يبغي من وراء ذلك هزمنا؛ والهزيمة تعني التنقيص منا، ومن رجولتنا.
يدرك جيدا أنني أمتلك سلاحا شديد المفعول يتمثل في تفوقي الدراسي بينما هو لم يستطع مواصلة دراسته، إذ بعد ثلاث سنوات تم طرده. كان يرهبني ويعرف أنني أتفوق عليه ليس فقط في الدراسة ولكن في قدرتي على صياغة جمل هي بمثابة شعرات تزري بالخصم تستمد مفعولها من السجع الذي لا يتفنن فيه غيري بحيث تتناقله الألسن، وتطرب له الأسماع بالرغم من فحشه. أتسلل ليلا إلى سطوح الجيران، وأكتب بخط واضح هجائي، غالبا ما يكون مدمرا..وأتجنب أن يعلم أبي بما تقترفه أناملي حتى لا ينزل بي غضبه هو الرجل المحافظ الذي علمنا مكارم الأخلاق.
كنت عدوه اللدود لمدة طويلة سعى إلى إذلالي بشتى الطرق، ففشل وتفوقت عليه. وكما قيل "لامحبة إلا بعد عداوة"، فقد صار أصدق أصدقائي بعد أن كبرنا، ونحن نجلس في المقهى كنا نضحك من شغبنا الفاضح باسترجاع هذه القصة التي جعلتنا نسخر من أحداثها، وكنا، ونحن نرتشف القهوة، ننظر بحسرة إلى الفضاء العام وقد امتلأ بالنساء الصغيرات والكبيرات. قال لي:
لو ظهرت الأنثى في حينا ونحن صغار، هل كنا سنقوم بتلك الأفعال البليدة؟
قلت له:
كن سيرطبن جفافنا !كن سيهذبن صلفنا ويعدن إلينا براءتنا ! لكن الماء كان بعيدا عن الشفاه !
صعب جدا أن تكون ذكرا في مجتمع يتقاتل فيه الناس أيهم يكون في القمة، ليخسف بالآخرين إلى الحضيض. صعب جدا أن تظل ذكرا في مجتمع يزري بالضعيف؛ فمن نجا من الذئاب، التقمته الأقبية، ومن نجا من الأقبية التقمه إما الصمت أو الهجرة؛ وهما معا فقدان رمزي للذكورة..
ملعب المقابلة شبيه بميدان قتال، المنتصر فيه هو الرجل، والمنهزم عليه أن يتحمل كل الصفات القدحية، وأشدها فتكا أن ينعت بالمرأة.
وكثيرا ما امتد هذا الصراع إلى أمكنة أخرى، وبخاصة المظلمة، والبعيدة عن الأنظار، حيث يدار صراع آخر من أجل كسر شوكة الخصم بإخضاعه بحيل ملتوية ليكون المرأة. في تلك اللحظة، يتم الإعلان عن الانتصار، ويتم تدوين كلماته على أسوار المنازل، وعلى حيطان الحي؛ كلمات تؤرخ للحدث، وتشير بالاسم إلى الرجل الذي فقد ذكوريته.
صعب أن تكون رجلا في مجتمع يتناطح ليكون القوي هو الفحل، يحيط نفسه بأتباعه الذين يخضعون له، إما رمزا بإغراءاته المادية البسيطة ومنها الكرة، أو فعليا حين يكون ضمن حوارييه شاب سقط في فخ الحيلة فصار يلبي رغباته، ويسمح لجسمه أن يكون مطية.
الفحل من تمكن من بسط سيطرته ونال من أجساد الغير، والويل لمن خاصمه، ووقف ندا له..
وكانت المقابلات ميدان تجربته، وكثيرا ما انتصرنا عليه، وكسرنا شوكته، لكن حقده الدفين سرعان ما يجد له متنفسا بالشتيمة أو النميمة أو كتابة كلمات نابية في حقنا، وكنا نبادله شتيمة بأقدع منها، وكتابة أفحش من كتابته، وما كنا ندري أننا نتعرى أمام الجميع، وأننا صرنا فرجة مضحكة؛ لقد سبقنا عصر الفيس بوك بأمد طويل، لم تكن تنقصنا سوى الصور تلصق بجانب تلك العبارات الفاحشة التي كانت تجعل كل من يمر بالقرب منها ينحني حتى لا تلوث بصره؛ أبصار انحنت رقابها، الآن، على هواتفها الذكية تلتقط المشاهد الساخنة بكل اطمئنان.
لكزني صديقي وكنت منشغلا بهاتفي وهو يشير إلى فتى وسيم يتمايل بقده : بمن يذكرك؟
بقيت للحظات ساهما، ثم اندفعت على سطح ذاكرتي هذه القصة مرة واحدة، فانخرطنا في موجة ضحك عالية كالنسيان..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى