فلاح العيساوي - رقية العصر..

على ضوء شمس الصباح، يمشط شعرها المنساب كأنه خصلة من الليل، يلفه بقدرة فنان تعلّم حياكة الشعر على يديها، تحرك رأسها زهوا بجدائلها، تلتفت إليه تعانقه.. تطبع قبلاتها فوق وجنتيه، كلماته الأخيرة: عند عودتي سأجلب لك ما تتمنين... تجذرت في خيالها الغض، تطير على أجنحة الشمس، السعادة تتراقص في قلبها الصغير. تموج به الذكريات القريبة في ساعة الراحة بعد يوم قاس من المعركة الحامية، (آيات) تعزف موسيقى الشوق على أوتار قلبه، الحنين يداعب خدودها المتوردة، نغمات كلامها لا يفارق سمعه على الرغم من أزيز الرصاص ودوي انفلاق القذائف... عاد ليتذكر تلك الليلة احس بقرب اللقاء، علامات الولادة كانت ظاهرة على محيا زوجته الحبيبة، الطريق إلى المشفى محفوف بالخوف والقلق، يقف أمام غرفة العمليات.. الانتظار يمتص رحيقا للروح، ينهش القلب بأظافره الحادة، آيات البشرى لاحت بالأفق، صرختها هزت كيانه المتعب، تلك الممرضة زفت الفرحة إليه.. انطلق إلى الفراغ في ليله الداجن، جثى على ركبتيه يرفع يدي الابتهال بالتهليل والشكر، يسجد أمام القدر المقدس، تختلط دموع الفرحة مع التراب.. يرن صوت هاتفه النقال فيستيقظ من الذكرى، يبتسم عندما يرى اسم آيات قد رجع به من ذكرى ولادتها قبل إحدى عشرة سنة مضت مثل النسيم: - بابا حبيبي كيف حالك مشتاقة لك متى تأتي؟. - الحمد لله بخير بفضل دعواتك، وانا مشتاق لك أكثر حبيبتي، عن قريب إجازتي. - تأتي بالسلامة بابا. ودعها وأغلق مع ابتسامة عريضة... يحدث نفسه: الآن سوف تخلد آياتي إلى النوم. مع إطلالة الفجر وأداء الصلاة جاءت ساعة الصفر لتنفيذ خطة الهجوم على أوكار المغتصبين، كالمعتاد المقدم إحسان فارس الميدان بلا منازع، شجاعته وإقدامه تبثان روح الفداء وطلب النصر في جنود فصيله النشامى، كالليث يقتحم سوح الوغى لا يهاب المخاطر، يزأر مع أزيز الرصاص وانفلاق القذائف خوفا على رفاقه، قوات (العقرب) الصامدة، تثير الرعب في نفوس العدو، اسمه كابوس أسود عند (الدواعش).. بقيادته استطاع النفوذ إلى عقر دارهم وتفكيك خلاياهم... بعد المواجهة الشرسة مع العدو، انهارت أمامهم العقبات، فلول الشراذم هربت للبيوت القريبة منها، اتخذت أهلها دروع بشرية تحتمي بها... اصدر الأمر إلى جنوده بالانسحاب خوفا على أرواح الأبرياء، من بعيد شاهد (آيات) تركض والخوف يلحقها مكشرا عن أنيابه، دموعها تختلط مع غبار الأديم المتصاعد فتح ذراعيه، ضمها إلى صدره، غمرها بحنانه... هدأ من روعها: - حبيبتي لا تخافي.. أين اهلك؟. - عمو أهلي بالبيت. - لماذا خرجت من البيت في هذا الوقت الخطر؟. - عمو أنا هربت خوفا من المسلحين عندما دخلوا بيتنا دون استئذان. كان يتحدث معها والدموع تنهمر من عينيه، يرى وجه آيات في ملامحها، يحدث نفسه: "هي في عمر أبنتي الحبيبة، ما ذنبها؟ والخوف يقطع اوصالها!... تلك الوحوش لا تعرف معنى البراءة... تبا لهم من نفوس شريرة". قضى ليلته الطويلة برفقة (نسمة) يخفف عنها حمّى الخوف والبعد عن حضن الأم، اتصل بآيات وطلب منها التحدث مع نسمة، حديث آيات خفف عنها كثيرا؛ فغطت بالنوم بعد يوم قاس. أشرقت الشمس فكشفت عن بقايا آثار العدو التخريبية في دور الأبرياء، أسرع إحسان بإيصال نسمة إلى حضن أمها، بعد الاطمئنان عاد إلى وحدته العسكرية، يشحذ الهمم ويخطط لضرب الهاربين، المعلومات الاستخبارية افادت عن أماكن تواجد العدو في بعض الدور الخالية من أهلها، المداهمات المنظمة أوقعت الجرذان في أيدي قوات العقرب ومعهم أبطال الحشد الشعبي، شاهد إحسان أحد عناصر قواته يضرب رجل من الأسرى، أسرع إليه قائلا: (لا تضرب أسيرك.. أن الاسير والجريح سقط وانتهت قوته.. فلتكن أخلاقكم أخلاق الفرسان)، الإحسان جذوة من نور تماهى مع روحه الخيرة، يقدم الطعام بيده إلى أسيره كما ينقل الغذاء إلى أهل الأحياء المنكوبة، جلَّ سعادته ابتسامة طفل ودعاء امرأة وعناق شيخ تغمره الفرحة. راهب الليل في الليل تتساقط دموعه، في النهار ضرغام لا يهاب ضراوة المعركة، وقف مع عناصر فوجه يمطرون الاعداء بسيل من القذائف، شاهد من بعيد انفجار لغم بواحد من رفاقه، فأسرع إلى نجدته رغم المخاطر، حمله فوق كتفه و اوصله إلى الوحدة الطبية المرافقة، بعد دقائق وصل إلى المقدمة يصرخ بصوته الجهوري، يبث الحماس في قلوب إخوانه الشجعان، لحظات النصر وحسم المعركة باتت قريبة، القدر رسم آيات الشهادة في الأفق، قذيفة الهاون سقطت بقربه، تشّحط بدمه وهو يردد {الحمد لله... بابا آيات شلون راح اعوفج... حبيبة بابا}. ميدان المعركة تزلزل غضبا، يقذف بالحمم واللهب فوق رؤوس خوارج العصر، النصر كان حليف الحق، جنود الأيمان حملوا قائدهم فوق أعناقهم، بذلوا غاية الجهد في سبيل اسعاف انسان عشقوا أخلاقه، النصر لا يأتي من دون تضحيات، الأمان في زمن الوحوش يحتاج إلى دماء، دموع الجنود تساقطت على فراق قائدهم، الجميع جلسوا عنده... تقبيلا وضم. الفرحة غمرتها عندما امسكت شهادتها ورأت درجاتها، قالت في نفسها: أبي سوف يفرح بنجاحي.. الأولى على زميلاتي نتيجة يفتخر بها أبي الحبيب، على غير عادتها اسرعت بمشيتها قاصدة إلى البيت، سوف أبشّر أمي بنجاحي، أمام الدار رأت اجتماع أعمامها وبعض من الأقارب والجيران، استقبلها عمها أحمد وضمها إلى صدره وأجهش بالبكاء، أيقنت أن في السماء علامات تنذر بالفزع والحزن، دخلت إلى منزلها؛ شاهدت موت الفرح. بعد إجراء مراسيم الجنازة، اقتضت العادة بمرورها على بيت الشهيد للوداع الأخير مع زوجه وأهله، آيات كانت تقف مذعورة من هول الحدث، بين الكابوس والحقيقة برزخ خفيف يتلاشى باليقظة، رغم الصراخ والعويل واللطم على الخدود والصدور ما زال الذهول يفترس الواقع، تحركت آيات في خطوات مرتبكة.. تنفض عن نفسها قيود الهلعة.. اقتربت من التابوت وبدأت بالبكاء. علت صرخة من قلب يزفر بحرقة: {ولج آيات.. ابوج مات.. ابوج راح.. بعد ماكو بابا}.. كلمات خالتها رصاصات اخترقت قلبها الصغير، اظلمت الدنيا في عينيها، لا شيء ينهي مسلسل الرعب، بدأت عروقها تفقد حرارتها. أخت كشفت النقاب عن أخيها، تبتغي تقبيله وتوديعه، بنت شاهدت وجه أبيها... صرخت: (بابا كوم ليش نايم؟... باباتي مو كتلي راح اجيبلج هدية عروسه... بابا أني مو حبيبتك.. بابا لا تعوفني)، في الصرخة الثانية شهقت بقوة وسقطت فوق أبيها، صاحت أمها أتركوها تودع أبيها فأنها مشتاقة جدا إليه، عندما طال مكوثها فوق جثمان أبوها اضطربت النسوة فأسرعن إليها... وجهها المبتسم يشع بالسعادة والرضا، روحها أبت إلا أن تعانق روح حبيبها وتصعد معه إلى السماء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى