سيدة بن جازية - النافذة...

حين داهمها المخاض التجأت إلى بيت خرب خارج أسوار المدينة.
وضعته دون مشقة أو عناء فكان كالبدر في الليلة الدهماء .
شقت بعض أسمالها البالية و لفٌته بكل تؤدة و حب ،صنعت له قماطا يحميه القر ثم وضعته في كيس أسود عثرت عليه بقمامة بعد أن أفرغته من الأدران .

راحت تجوب به الشوارع سائلة أهل الخير بعض الماء والقوت ... ركنت إلى الجدار المعهود تلتقط أنفاسها. مرددة في سرها بكل أسى و حسرة " من خلقك لا ينساك ،و هذا المكان داؤك ودواؤك" .

انهمرت دموع السيدة الأرستقراطية وهي ترقبها أمام المصرف الكبير ، شدها المشهد الأريب ؛ كيف تحنو على ابنها وتقبٌله بكل لهفة و فرح . أسرتها البسمة التي ملأت محياها رغم الإرهاق والهزال .

مرت دقائق ، فساعة ،ساعتان ... لم تستطع المغادرة وهي ترمقها بحسد ،تفكٌر في الأمر بخبث بل بمنطق أصحاب الجاه ، تبحث عن سبل المساعدة ، أو لنقل الإغراء أو المقايضة...

رغبة ملحة تدفعها لتقبيله ورفعه بين يديها.
لسعتها سنان الشمس الخريفية في هجوم عنيد كأنها تطاردها من أعالي السماء الشريد.
خلعت معطف الفرو الوثير و حذاءها الجلدي الفاخر ثم نزلت من عربتها على غير عادتها تتهدج متعثرة كغانية يحرقها صفيح ساحن ، تثبت عينيها على الرضيع ،تتقدم،تتوغل ثم تسدد ... بمعسول الكلام سحرتها...
ثم كست النفساء معطفها وحذاءها ثم وضعت إلى جانبها حقيبة أودعت بها مبلغا ماليا محترما...

احتضنت الوليد بين ذراعيها ، قبّلته بحرارة ، ملأت رئتيها بعبق الأمومة الضائع ثم هرعت إلى السيارة الفاخرة ،أمرت سائقها الخاص بالانطلاق . فانطلق كرمح غادر غمده ..

لم تنظر خلفها ،لم تستأذن أمه... ربما لم تفكر في المصير. ...

وقفت المسكينة مشدوهة ، تمسد معطفها وحذاءها ،ابتسمت حين امتلأت يدها بمبلغ لم تكن تحلم به ... تبلل صدرها من بكاء هستيري ممزوج من الفرحة و الجزع .ربما لم تفكر في مصير ابنها لحظتها متناسية أو هذا ما كانت تطمح إليه ،رفعت يديها إلى خالقها شاكرة متضرعة في اطمئنان .

مر بسيارته الفارعة ، رمقها ترتدي معطف الفروالوثير ،
وحقيبة الزوجة بيدها... توتر في انفعال شديد ،
ساورته الظنون ،ماذا تفعل هنا ؟!
ما علاقتها بزوجتي ؟
عدت مسرعا إلى قصري لأ ستفسر زوجتي عما يحصل هذا الصباح وقد عاينته من النافذة .
صراخ الرضيع يملأ البيت حبورا فتزهر الجدران وتكسو البيت شذا نادرا مثيرا عقد اللسان.

لم أقدر على التفوه بكلمة غير طلب استدعاء الأم إلى البيت .
وافقت زوجتي دون شروط.

لحظات وكانت بيننا ،تطأ قدماها قصرنا الفاخر و تلتحق بابنها في غرفة للزوار.
هاله مشهد أم ورضيعها تحتضنهما زوجته العاقر برضاها .

تذكر قبل تسعة أشهر حين دبٌر له صديقه بيتا وفتاة شريدة محاولا إقناعه باستئجار رحم يحمل له ابنا من صلبه .

فعلتها مكرها مرة واحدة ، لكنني رفضت أن استمر بخيانة زوجتي الحبيبة .

قيل لي بعد أيام أنها حملت نفسها وعارها وراحت تجوب الشوارع خرساء صماء. منذ ذلك الحادث تلاشت ذكراها ببالي حتى أنني لا أذكر لها ملمحا خاصا أو طريق.

لازمت المسكينة مكان عمله متسولة حقيرة ،يجود بعض أهل الخير عليها ببعض المال أو الزاد بينما راح بطنها ينتفخ و يتكور متخفيا بكل الأسمال الدرنة.

تحت سقف هذا القصر تجتمع الأم برضيعها ، ترعاها زوجة رؤوم حالمة بالإنجاب ، تهديهم الحلم الموؤود ...

تعود به الذكرى إلى تفاصيل هذا الجسد و هذه الملامح البريئة بعد أن تحممت و تعطرت مرتدية ملابس نظيفة راقية ، أدركته الصدمة ، فأصيب بجلطة دماغية أفقدته القدرة على النطق أو الحركة .
أرمقها بعينين هائمتين ،و ترمقني شزرا في صمتها الموصول مومئة إلى قدرة خالقها العظيمة إذ عاد الحق إلى أصحابه ونال ما نال من عقاب . ولم يبق لهما غير التخاطر والصبر .

اختارتها زوجته المصون أن تكون معالجته الدافئة بينما كانت تهيم بهذا الوريث الوحيد . قالت لها صراحة خذيه واتركي لي " موسى " أرعى شؤونه ليل نهار ...

سيدة بن جازية. //. تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى