كان الشفق يا صديقي يغيب مثل أملي في تلك الأمسية الشتوية القارسة البرودة، تمشيتُ فيها قليلا لعلّي أمسح عن جبيني بعضاً من تعب السنين، لعلّي أستريح من كآبة الغربة، ربما لعلّي أفيق.
تمشّيتُ وحيداً بلا رفيق، فلا رفقاء هنا، تمشيتُ غريب الملمح واللون، فلا أحد يشبهني هنا وكأنهم كتبوا على جبهتي...
إنها السماء تمطر كالعادة ولكن في هذه البلاد لا تمطر ماء بل تقذف ثلوجاً، تظنُّ وكأنها اللعنات اختارت تلك البقعة بعناية. عجوزٌ بغيضة تمعنني بنظراتها الشريرة، هنا الهدوء في كل شيء حتى في الكراهية، طفلة تداعب كلبها وأنا أخشى الكلاب والشرطة، بضع أفارقة يتونسون هناك يعتقد الجميع أنهم رجال مخدرات...
هنا الجميع صامتون لا ثرثرة لا جدال، هنا الشوارع خالية لا جواسيس يتجولون كباعة، هنا الجدران نظيفة لا وجوه حُكام لا لافتات أحزاب، لا بَأس هنا ولا بُؤس.
كلّ شيء هنا ملفت للنظر وغريبٌ في آن واحد ... تخيلوا رسالةً للشرطة ملصّقةً في إحدى الساحات وعليها صورة كلبٍ صغير والرسالة أيها الشرقيون عنوانها...
لقد تنازلتُ يا سادتي عن إنتمائي الوطني وقدّمتُ برقية شكوى لإحدى المحاكم الدُّولية أُقاضي فيها وطني السابق أن يُقدِّمَ لي ثمناً بخساً، تعويضاً على أحلامي المسروقة، لعلِّي أشتري رغيفاً وكفناً.
وَكَّلَ الوطن محامياً محترفاً، قَلَّب الأمور عليَّ، فقد قدَّم للمحكمة طلباً غريباً وهو أن أُعِيد للوطن...
أن تكون بريئاً في هذا الزمن ... جريمة أيضا.
صامتة دوما، لم أراها تبتسم إلا ذالك اليوم عندما حيَيتها بلُغتِها، إبتسمت لي وعيونها البُنيّة تكاد تبكي، كانت أجمل إبتسامة رأيتها بعد التي على وجنات أمي.
ذهبَتْ بخطى ثابتة إلى خارج المقهى، إستنشقَت هواءاً طلقاً وكأني أحرجت صدرها ثم رجَعَتْ حزينة إلى...
إنخفض منسوب النيل، لم يُحصد محصولٌ في ذالك الموسم المشؤوم، تجمع رجال القرية للتشاور في إحدى أمسيات الصيف أمام راكوبة حاج عبدالله الرحالة، الرّجل الستيني النحيف مستطيل الوجه بارز الإبتسامة رغم فقره، الودود رغم غربته، عُرف بالسخاء عند أزمنة الشدّة والصلح عند الفتن والرأي عند المحن، قدّم لهم الجبنة...
إنها السابعة والنصف صباحا، هدوء يعم شواطئ البحر الكاريبي وكأن أمواجه في نوم عميق، ثمة نسائم تداعب أوراق الغابة المطلة على شمال المطار، وفي الشرق ما وراء سلاسل الجبال لم تبرز الشمس أنيابها بعد.
برودة ساحرة ترحّب الضيوف وتودّع المغادرين، أجنحة طائرة تقارب ملامسة المياه ثم تنحدر نحو المدرج في...
آثار سكّة قديمة، قرية إستراتيجية تعبرها الإمدادات الأيطالية المتوغلة نحو الشمال، بادرة شتاءاً حارّة صيفاً، تجذب بحيراتها العذبة وأتربتها الحمراء مجاميع البعوض وتراحيل الأبالة التائهين. تتمركز فرقتان من بقايا جبهة تحرير شعوب الجنوب مدخلها الجنوبي، إنهم عبارة عن لصوص في وطن لم يعد اسمه مسَجلا...
أحزن فأكتب، أتكئ على مقعد مهترئ كوطني، تزعجني ثرثرات بعض اللاجئين، إنهم يتفاخرون بقبيلتهم، بإحدى حروبهم في أدغال بلادنا، أقصد بلادهم فلم يعد لي بلد بعد الآن، لقد يئست من تلك المُسميات. ألعن دوما قبيلتي التي ولدتني في قاع الحجيم حيث السفاهة والتخلف والتفاخر بالرذائل. يا سادتي لقد قامت قيامتنا قبل...
نزلتُ من المواصلات منهكا، تائها كعادتي، حائرا مثل البقية، هنا في باحة صغيرة خارج المتحف الوطني الكيني يستنشق الجميع الهواء الطلق من دون دفع أية ضريبة ... مارّة متألقون، سيارات فارهة وأخرى تعود لوحاتها إلى حقبة دانيال أراب موي، سمراوات تنسيك نظراتهن أحزان الليالي الكالحة، بطالة في كل مقعد وزاوية،...
بدأت قطرات الخريف تتساقط في باحات إسطنبول، ترقص الأوراق في صباحات السكون الخالية من إزدحام الآدميين لعلّ الجميع تعبوا في السهرات الطويلة داخل الحانات التي يعزفن التركيات ألحان العشق بصدورهن العارية، أفخاذ بيضاء وعيون لامعة وراءها قصص الأرياف البعيدة وحكايات القرى الجبلية التي كانت يوما حصون...
إنه صباح غائم تتساقط فيه الثلوج كما كانت تتساقط القذائف في بيوت الأبرياء أثناء الحرب الأهلية الصومالية، الجوّ ليس غاضبا اليوم، كلّ شيء يبدوا جميلا هنا، قام فارح كعادته من النوم مُستاءا ومتعبا جدّا، لقد تعب حتى في النوم، أه يا لها من شقاء أن تتعب في كلّ شيء. فتح نافذة غرفته المطلة على الجبال...
بعد وفاة جَدِّه الضرير، لم يكن أمام فارح سوى خيارين، التشرّد أو العمل في ورشة العربات. التشرّد في هذه المدينة اللعينة ليس أمرا سهلا، هنا تقوم المليشيات بتجنيد الأطفال قهرا لذا لم يكن أمام فارح سوى العمل في الورشة التي كان يديرُها رجلٌ خمسيني مستدير الوجه، يبدو رأسه تماما كَكُرّة السلّة، طويل...
إنها السابعة صباحا، تواصل الشمس زحفها البطيء لكي تُضيء هذه المدينة السخيفة، المدمّرة. أصوات مزعجة وضوضاء بلا معنى، صيحات وشجارات وطلقات من الرصاص الحي، إنه حيّ سيغالي المكتظ بالنازحين. هُنا كل شيء يبدو غريبا يا سادة. الأطفال يلعبون فوق دبابة مهترئة وعلى بعد أمتار يتقاسم بضع رجال من قطاع الطرق ما...