(يا إلهي.. ما الذي فعلته بنفسي) حَدّثَ أحمد عبدالله الحسيني نفسهُ وهو ينظر للسماء، منتظراً هبوط الظلام كي يجتاز الطريق الى المقبرة القديمة، والذي يحيط به الأشجار العالية المتشابكة الأغصان فتبدو كأنها سور يحمي هذا الطريق الترابي الممتد بين البساتين الخضراء. يخيّم على المكان السكون التام، لا شيء...
لم يزل القنّاص مختبئاً فوق سطح البناية قاتلاً الكثير من الجنود والأهالي. أصبحتْ ساحة السّوق خالية، إلّا من الجثث التي إصطادها بطلقاته التي تثقب الرؤوس وتترك الرّعب مخيماً عليها. من خلف السّيارة المحترقة كان الأب مختبئاً، خائفاً يتربص إنتشال ابنه الذي كان قبل قليل معه، مسروراً بالأقلام والدّفاتر...
أخيراً هبطتْ الطائرة بسلام، بعد صراع ٍعنيف مع المطبّات الجوية. لم أصدق نفسي وأنا أنزل من سلّم الطائرة. رأسي ثقيل وجسمي يؤلمني لقد اتخذت قراراً نهائياً أن لن أسافر بالطائرة مرة أخرى. وصلتُ إلى الفندق متعباً جداً. كانت الشركة التي أعمل مهندساً فيها قد حجزت لي مسبقاً. عندما أغلقتُ باب غرفتي تخلّصت...
خذ الذي يعنيك وانصرف أيقظني صوت امّي فنهضت مترنحا، لا أزال تحت تأثير كابوس ليلة البارحة نظرت في المرآة وأنا أغسل وجهي كان شاحباً جدّاً. يا ألهى متى أتخلّص من تأثير قصص جدتي، كانت لا تتعب من حكاياتها الطويلة التي لم أستطع الصّمود ليلة واحدة دون أن انام قبل ان أعرف النهاية. يهزمني النوم دائما، كنت...
من الأفضل لي أن أتذكر البداية التي من خلالها تعرفت على الأشياء من نظرتي الأولى، ولا أنسى النهاية التي كتبت لي منذ ولادتي. الصيف له خطواته الأولى، لكنني اليوم أعيش لحظات تأملية رائعة وفريدة من نوعها مثل شروق الشمس وغروبها. فعندما أرى الشمس من خلف زجاج نافذة غرفتي قريبة من الأفق، ولم تكن مشرقة...
(1)
- ماذا فعلتم؟
تكلم الجد بعد صمت طويل أحسّه الأحفاد دهراً. كعادته كان جالسا في شرفته يراقب عمل المزارعين في بستانه الكبير، لم يلتفت ناحية أحفاده كي يرى الخوف في وجوههم.
- لقد أحرقنا منزله.
قال أحدهم محاولاً اخفاء خوفه وفزعه مما حدث.
- هل انتهى أمره؟
- نعم.
- حسناً ليكن درساً لكم كي...
الليلة التي لن أنساها أبداً حينما شاهدت أبي قادماً اليّ من بعيد حافياً مغبر الوجه، يتفقد القتلى في أرض المعركة، يبحث عني. لم أستطع أن أناديه او حتى أن الوح له بيدي اليمنى او اليسرى. تمنيت أن يجدني قبل أن تقتلني جراحاتي التي لم أحصيها. أن يأخذني في حضنه ويبكي عليّ ما استطاع. ربما دموعه النقيّة...
دخلتُ المدينة ليلاً ببدلتي العسكرية الممزقة وخوذتي المثقوبة. كنت متعبا جداً، اقدامي تؤلمني ورأسي يكاد يهشمه الصداع. كلما تذكرت امّي ينعصر قلبي. يا ألهى ما هذا الدمار. أغلب البيوت قد تهدّمت بالقصف العشوائي للمدافع والطائرات. أخذتني رجفة مفاجئة وأنا اقترب من منزلنا. رغم هذا الظلام الحالك، ورغم كتل...
أمضيت يومي مشغولاً بالتفاصيل الصغيرة التي تشبه الكمثرى. لكني ما أن فتحت الحاسوب وقرأت التأريخ الملعون *(الثاني والعشرين من أيلول) حتى استيقظت في ذاكرتي كل الذكريات القديمة التي ابتلعها النسيان فصارت في العدم لكنها لم تزل مؤلمة تلامس القلب وتترك فيه غصة اليمة. كنت في السادس عشرة من عمري، عصر ذلك...
(انّه لم يتعرّف على أيّ ... منّا) قالت فاطمة لنفسّها وهي واقفة خلف نافذة غرفتها، تراقب عبدالله الجالس تحت شجرة الزيتون. فمنذ عودته من الأسر أعتاد كلّ صباح بعد إنهاء فطوره الجلوس على الكرسي المصنوع من جريد النخل، لا يفعل شيئا غير التدخين بشراهة، والاستغراق في عالم لا يعرفه أحد غيره. كلّ يوم يمرّ...
مرّ وقت طويل جداً وما يزال واقفاً بجانب النافذة، منصتاً لصوت المطر المنهمر بغزارة. لم تكن لديه الرّغبة في الخروج من المنزل. تمنّى أن يمضي اللّيلة قربها. يشرب قدحاً من الشاي منتظراً رحيل اللّيل بهدوء، بعيداً عن الخوف والتّرقب من هذا المجهول الذي ينتظره في الظلام.
- هل تتركني وحدي؟
أيّقظه صوتها من...
– إنه أمر لا يطاق.
قال لنفسه وهو يجتاح النفق المظلم الذي أحسّه طويلاً لا ينتهي. تحسس سكينه، ربما أصبحت قديمةً ولا تؤثر في الحجر الذي يحيط به من كل جانب فيجعله يشعر بالاختناق، وبين لحظة وأخرى يصاب بالغثيان فلا يعرف الخلاص من كل هذا الرعب والتشتت. ألم الوحدة والهواجس التي تلاحقه فتجعله ضعيفاً،...
وصل متأخراً. فتح الباب فأطلق صريراً عالياً أحسّهُ نذير شؤم، دخل الى المنزل شاعراً بالقلق وتأنيب الضمير لعدم وفائه بالوعد الذي قطعه لامّه صباح هذا اليوم عندما قالت له: -
- انني اليوم لست على ما يرام ابقَ معي.
- لن أتأخر سوف أنهي بعض الأعمال وأعود.
لم يجدها، ناداها فلم يسمع جواب. رفع صوته...
منذُ أن سار ركب السبايا وهي تسير غارقة في صمتٍ عميق. لم ترَ رأسه المقطوع فوق الرّمح، كانت تراه يُحاذيها السير. يُحدِثها مبتسما ويمسح على رأسها. وكلّما أحرقتها سياط الجلادين على ظهرها الصغير يحتضنها ويمسح بيده الطاهرة على مكان الألم قائلاً لها كلمات لاأحد يسمعها الّا هي وحدها, فتبتسم فرحة, حاسّةً...
لم أصدق ما تراه الآن عيني المغرقتان بالدموع، بعد ما هوى سيدي من على ظهري المثقل بالسهام الجارحة الى الأرض الحارقة. ربما احتضنته الرمال الحزينة وهي تبكي بعد أنْ شهدتْ معي وحشية هؤلاء القوم الذين فاق عددهم خيالي الذي كنت قد تخيلته لحظة خروجنا من المعسكر، كأنهم اسراب جراد، أحاطوا بنا من كل جانب...