د. محمد عبدالله كَبَلُّو - عبيد الإشاعات

🖋 أطلقت د.رشا عبدالتواب زفرة حارة، وكأن جسدها يحاول نفث ما مسه من لُغُوبِ ذلك اليوم في هواء الغرفة. أزاحت سماعتها الطبية عن كتفيها في ضيق وألقتها أرضاً في لا مبالاة. عادت للتو إلى غرفة الطبيبات المناوبات، في الطابق الثالث، بعد قضاء تسع ساعات متواصلة في غرفة العمليات بمستشفي أمدرمان التعليمي. كان يوماً طويلاً ومليئاً بالمغامرات في بطون ورقاب وصدور المرضى. صال مشرطها الجراحي وجال في شتى أنواع الأجساد. أجساد صغيرة وشابة وعجوزة. أجساد ذكور وإناث. وعلى الرغم مما حلّ بها من نَصَب، فقد أحست ببعض السعادة وهي تسترجع تفاصيل إنقاذها لحياة العديد من المرضى. استأصلت زائدة دودية ملتهبة أوشكت على التعفن في بطن طفل صغير، ورتقت ثقباً عظيماً في أمعاء شيخ كبير. أنقذت فتاة أوشكت على الاختناق بغدتها الدرقية المتضخمة، كما حرمت البكتيريا من تسميم دماء سيدة بعد أن بترت رجلها المصابة بالغنغرينا.
خلعت رشا حذاءها بصعوبة بعد أن رفضت قدماها المتورمتين الخروج طوعاً. أحست بالنبض في كل جزء منهما وكأن طول فترة الوقوف قد قطعت عنهما دورة الدم. انتعلت شبشباً بلاستيكياً ودخلت إلى الحمام. وبعد عودتها استلقت على المرتبة الإسفنجية فأنّت قوائم السرير الحديدي وأصدرت صريراً عالياً وكأنها تصرخ مستنكرة تحت وطأة جسدها البدين. تأملت الأسرّة الخالية حولها. لا بدّ أنها المحظوظة الوحيدة بين زميلاتها؛ فالكل مازال مشغولاً حتى اللحظة بين قسم الطوارئ والعنابر وغرف العمليات. هي ستحظى بالقليل من النوم قبل أن يتم استدعاءها مجدداً. نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. أغمضت عيناها في تراخ، وسرعان ما انتظم تنفسها وراحت تغط في نوم عميق.
في هذه اللحظة، كان حارس باب غرفة الطبيبات المناوبات يدقق النظر في بطاقة امرأة منقبة ترتدي عباءة سوداء وقفازات بنفس اللون وتحمل حقيبة قماشية حمراء . أعاد إليها البطاقة وقال في احترام:
- تفضلي بالدخول يا دكتورة سهى عثمان..
شكرته المنقبة ودلفت بهدوء إلى الغرفة. تحركت في خفة الفهود وحذر القطط. ألقت نظرة طويلة على رشا النائمة. أخرجت هاتفها المحمول ونظرت في ألبوم الصور قبل أن تعيده إلى حقيبتها. تناولت وسادة مكتنزة من أحد الأسرة الخالية. حملتها واقتربت بحذر من رشا. صوت جهاز التكييف طاغٍ على كل صوت آخر. رائحة الجوارب تعبق الجو. الإضاءة خافتة، ولون الجدران المائل إلى الصفرة الباهتة أضفى جواً لا بأس به من الكآبة. بدت الكآبة متناسبة جداً مع طبيعة المكان؛ فالمستشفيات تعج بالألم والحزن ويتزاحم فيها الأسى والفقر والمعاناة مع المصائب والكوارث الإنسانية. فلا عجب أن تدهن الكآبة جدرانها وتتراكم أكوام التوتر والقلق في كل ركن من أرجائها.
ألقت نظرة أخيرة على رشا وهمست قائلة:
- سأعتقك اليوم من هذه الزنزانة يا بدينة. سأخلصك من مستنقع الأسى والكآبة.
انقضت على رشا. غطت وجهها بالوسادة. ضغطت بقوة، واعتلت بطنها لتجلس فوقها وتشل حركتها.
انتفضت رشا وانتفضت. أطلقت صرخات كتمتها الوسادة وحدّ منها جسد سهى القابع فوقها فلم تتجاوز الصرخات دواخلها. استمرت محاولات المقاومة البائسة لدقائق معدودة قبل أن تخفت تدريجياً. همدت حركتها تماماً.. أزاحت الوسادة وتحسست النبض في عنق رشا. ما عاد هناك نبض. وقفت تتأمل وجه رشا الطفولي. بدت كالملاك النائم. أرجعت الوسادة مكانها. غطت الجثة بالبطانية قبل أن تغادر الغرفة في هدوء شديد.
دخلت إلى أحد الحمامات الملحقة بغرفة الطوارئ في الطابق الأرضي. خلعت العباءة والنقاب والقفازات وألقتهم أرضاً فوق بطاقة د. سهى عثمان. أخرجت زيها العسكري من الحقيبة وارتده. ثبتت النجوم الستة على كتفيها. نظرت إلى المرآة. صففت شعرها بيديها. غادرت الحمام ثم مبنى المستشفى تاركة الحقيبة وراءها. قادت بسمة دراجتها النارية في هدوء وعادت إلى شقتها.
صباح اليوم التالي ضجت أسافير الفيسبوك وبقية مواقع التواصل الإجتماعي بخبر وفاة الدكتورة رشا عبدالتواب. وافتها المنية أثناء نومها. المسكينة. لا بد أن جهاد العمل الشاق قد أزهق روحها. انتشرت صورتها المأخوذة من إحدى المناسبات الإجتماعية وهي مبتسمة في آلاف الصفحات. انهالت دعوات الترحم على روحها الطاهرة. البعض وصفها بشهيدة الواجب، والبعض الآخر أقسم أغلظ الأيمان أن ما أصابها هو جلطة رئوية بسبب بدانتها. بعض المُنظِّرين قطعوا بأن متلازمة القلب المكسور كانت السبب وراء وفاتها. تشكلت مجموعات إسفيرية وصفحات تناشد وزارة الصحة وتطالبها بتقليل ساعات عمل الأطباء في المستشفيات الحكومية. بينما امتطى العديد من القياديين في أحزاب المعارضة الموجة بمهارة واستغلوها بخبث لإثبات فشل النظام الحاكم في تصريحاتهم وخطبهم العصماء.
وفي خضم ما يحدث، كان تلفزيون السودان يبث الأغاني القديمة ذات التسجيل البائس، وكأن الله ما خلق السودانيين إلا ليرقصوا ليلاً بعد أن قضوا نهارهم رقصاً..
أضافت بسمة تعليقاً على إحدى مقالات النعي على الفيسبوك: "أثبتت دراسة أمريكية أن الوجه الشحيم يؤدي إلى التوقف الفجائي للقلب".
راقبت التعليقات وهي تنهمر بين مؤيد ومستنكر. هزت رأسها في استخفاف. أطفأت سيجارتها وغابت في سبات عميق..



تعليقات

تهنــــــــــــــــــئة

يطيب لنا أن نهنئ الأديب الطبيب محمد عبدالله كَبَلُّو على فوزه بالرتبة الأولى في مسابقة المناضل والكاتب والروائي الإرتيري محمد سعيد ناود للقصة القصيرة في دورتها السابعة لعام 2021، عن قصته القصيرة: "الغزال المقدس"
وإنا إذ نهنئه نتمنى كل التألق والتوفيق والتفوق والرقي والنجاح في الحياة
 
أعلى