ما أبعد زمني عن جسدي!
الساعة تمرّ أثقل من صخرة سيزيف،
لوحات الإعلانات تتوهج في ليل المدينة،
كأنها أجساد تدبُّ فيها الحياة.
آه، نعم، أنا في سان فرانسيسكو الليلة،
سمعتُ صوتاً تحت قدميَّ،
كدت أرتطم برأس نائم وأنا أمشي.
كشف الغطاء قليلاً وصرخ في وجهي
ففاحت رائحة الفودكا والتعرق٠
الأرصفة أسرّة...
انطبعتْ قدما نورسٍ على رمال ٍ
صَقلَها مدٌّ يتقدّمُ ويتراجع.
لم ينظرْ إلى انعكاسه
كانت عيناه تُصْليان أشراكهما
حيث تعبر الطرائد
وعيناي تترصدان الضوء
وهو يتقلّب على الزرقة
ويُغْرقها في لونهِ
فتخرجُ من نفسها كأفعى تخلعُ جلدها
ويسرقه ماءُ موجةٍ تندفع بطيشٍ.
إنه العُرْي يرفعُ برجاً ويتسلّقه بنفسه...
لا شيء يناديني،
لا أسمعُ كلماتٍ موجهةً لي
أو لأحدٍ غيري.
أسمعُ أصواتاَ هنا
كما لو أن الأشياء تتكلم
دون أن تكترث إن كانت كلماتها مسموعةً.
ثم تأتي الريحُ
لا كي تقول شيئاً
بل لتسكن في صوتها
وهو يتسلّق المنحدرات
على ضوء لزجٍ
يسترخي قليلاً على الطحالب
قبل أن تتشرّبه الظلال.
ثم يعلو المدّ،
تضيع...
قشرتُ برتقالةً كما يقشر الأسى قلباً ويأكل لبّه،
على الشاشةِ جماهير تحتشد في الساحات
بين أكتافها نُصبت رايات ولافتات وشواهد قبور.
الكلمات تسيلُ من الشاشة
وتجفّ على أرض الغرفة.
عليّ أن أسرع بمغادرة هذه البلدة
كل شيء فيها متشابهٌ،
والملل عقرب للساعة.
سكانها يعلّقون الراية نفسها على أبوابهم...
هل تفكّر بنفسك عابراً أم مقيماً؟
انظر تحتك: الطريق الذي تسير عليه
يحلّق الآن في الفراغ
كما لو أن له جناحين.
بعيداً داخل نفسي
هناك محطة لا أستطيع الوصول إليها.
بعيداً خلف كل ما أراه وما لا أراه
هناك محطة مهجورة
على طرف شارعٍ تم إغلاقه.
أمس وأنا أتجول في الغابة
كانت الأشجار تمشي فيّ
هي وجذورها...
كانت حبّات التمر ذهبيّةَ اللون،
ربّتْها أصابعُ الضوء على دقلة نورٍ.
أخرجْتُها من علبتها
أزلتُ النوى وصنعتُ عجينةً
وخطر لي أن أكوّن منها تمثالاً
حين أنهيته بدا كإلهٍ.
جعلتُ له فماً وعينين وقدمين ويدين
وفتحتُ ثقبين في منخريه كي يتنفّس.
حين اكتمل وضعْتهُ على رف مكتبتي،
ومن موقعه أوحى كأنه...
النَّفَسُ يُنْجبُ الموجة ويقودُ جسدي.
في هذا المَهْرقان يعيشُ بَصَري
متنقّلاً بين الأعشاب والأصداف والأجنحة
في تقلص يتواصل لعضلات مدّ يغذيها البَحْرُ
بحليب ينقّط من ضروع الريح
في جرارٍ تمتلئُ وتُفرغُ على مدار الساعة.
كان عيد ميلادي أمس، هذا ما قاله لي التقويم،
فصَففْتُ سنواتي قرب بعضها بعضاً...
انفجرت قنبلةُ الشمس فتطايرَ ما تبقّى من جثة الليل،
رأيتُ شظاياها تتناثرُ في ظلال تتراكض هاربة
كقطيع ثيران في أزقة المدينة.
أجنحة بلا ريش لطيور ترمقُ السماء بحسرةٍ،
نحلٌ نسي الطيران، أزهارٌ انطبقت بتلاتها،
نباتاتٌ تقلصت واختفت، ووجوه ولدت بلا أعين.
تصحرت الأرض، جفّت الينابيع واختفت الأشجار...
بسروالٍ قصيرٍ وقميصٍ أبيض بلا أكمام مصنوع من البوليستر ومواد أخرى أُعِيْدَ تدويرها كنت أقفُ في المطبخ حافياً فانتبهتُ إلى أنني لم أقصّ
أظافر قدميّ منذ مدة.
بدا بعضها متشققاً وهشّاً وفيه خطوط متعرجة.
كنتُ كشجرة بحاجة للتقليم أو حديقة بحاجة للتعشيب.
شعري لم أمشطه منذ يومين، يتدلى فوق عينيّ
وحين...
لا أحد يستطيعُ أن يُعلّمني ما أقولهُ عنكِ،
ولا أريد أن يُمْلي عليّ أحد.
قد أبالغُ في وصف تنورتكِ
وقد أغفلها،
قد أمدحُ بقايا المسكرة على أهدابكِ
أو نثرات الكحل على جفنيكِ
بعد أن تزيليه
قد أمجّد تقشّر طلاء أظافركِ
قد يلفتُ نظري خاتمٌ في إصبعكِ،
أو شامةٌ في صدركِ،
أو أثرُ جرحٍ
أو ندبة حرقٍ.
في...
كان مصنوعاً من خشب الأبنوس ومزخرفاً.
الجسدُ التي توكّأ عليه رَفِلَ في النعيم،
ثم سقطَ في مكانٍ ما على الطريقِ،
وبقي العكّاز، آخر ذكرى من حياة مجهولة.
تساءلتُ أين دُفن صاحبه
أيّ دروب سلكَ؟
ما الذي دار في ذهنه وهو يسيرُ متوكئاً عليه؟
هل رفع جَفْنيه الثقيلين،
قوَّمَ ظهره ونظرَ إلى الأفق؟
هل استطاع...
كان أنا،
أو أحد أشكالي.
كمنَ لي وبزغ فجأةً
حين فتحتُ ألبوماً
كما لو أن شمساً أشرقت كي تضيء لحظتي.
كان وجهاً يعيشُ في صورة
في فضاء من غيوم بيضاء وسوداء.
خلفه نافذةٌ فُتحت قليلاً
لاحت منها مناشر التبغ وأشجار الزيتون
وكان الوقت نهاراً في قرية متوسطية.
كان وجهاً تريّث من لحظات عبرت
أنقذتْه يد ثم...
يُضْجرني المحيط في هذه اللحظة،
تتشوّش الصور في ذهني وترفضُ أن تصير زبداً.
أشباحٌ من الماضي تطاردني على طرقي البحرية،
غير أنني أهزمها على مسرح الأمواج
حيث يقود الجنون الماء المالح إلى ذرواته.
لا تقلْ لي: قفا نبكِ أو اقرأْ
لا تنبس ببنت شفةٍ،
اصمتْ يا صوتاً يمكرُ في ذاكرتي.
أنا الآن على شاطئ...
نحتاجُ إلى زلزالٍ كي نرثي مدينةً،
كي نتمرّنَ على افتعال الحزن وجمع التبرّعات
كي نتبارى في معرفة عدد القتلى والمفقودين
ونضع قائمةً بالمشردين والجرحى ثم نتقمّص أسماءهم.
نحتاج إلى وفاةٍ كي نعزّي أحداً ما
كي نرفعَ السماعة ونتّصل بمن نعرفهم.
يلزمنا حادثُ سيارةٍ كي نشتري
وروداً ونرسلها إلى المستشفيات...