كان أنقى بياضٍ رأيتهُ في حياتي،
لم يُحلْني إلى أكفان
لم يفتح باب الموتى في ذاكرتي.
كان منقّطاً بالضوء في أطرافه.
بياض غيمة نَسجَها الجوّ
وعلقّها كي تُلْبسها العين لمن تشاء
كي يمنح الصحو هدية.
تريثتْ عيناي لوهلة
قبل أن أديرهما إلى ظهيرةٍ
تستعرضُ فضّتها فوق وجه المحيط.
أَقْصَرَ من أنفاس موجة...
حين جئْنا إلى الحياة
وُلدْنا على خط الزلازل،
وكبرنا على خطّ الحروب
ومنذ الولادة والأرضُ التي تحتنا تميدُ بنا،
والبناياتُ التي نعيش فيها تتأرجح
كأنها مبنية في الفراغ.
يأتينا الضوء بالقطّارة
والظلام كنهرٍ كوني.
دوماً نسير على حبل البهلوان
ونتعجّب كيف نتوازن طيلة الوقت فوق الهاوية
وهي تقول لنا بصوت...
لا شيء سوى الحواجز في الأفق
وحين تُشْرقُ الشمس
لا تضيء سوى الأنقاض.
كما لو أنني أقفُ على الأطلال
كما لو أن فردة الحذاء على طرف الطريق
كانت في قدم الريح،
والدمية الممزّقة بين الأحجار
سقطتْ من يديْ غيمة
أو أن حبات السبحة المتناثرة
كانت في أصابع الفراغ
أو أن الزجاج المهشّم والأحجار
سقطوا من كواكب...
في محل لبيع الأنتيكات
رأيتُ خرطوشة مدفعٍ من بقايا الحرب العالمية الثانية
معروضة للبيع.
كان معدنها باهتاً كالموت.
ذكّرني بصرخاتٍ،
ودم ضاعت صورته بين الأنقاض
بطيور مذعورة هربتْ من الدويّ
وقطط بُترت سيقانها
وكلاب تعوي في شوارع مهجورة
تقتات على بقايا القتلى،
وأعضاء بشرية مبتورة ضاع الجسد
الذي كانت...
المطرُ يتساقط وهذه عادته.
أغصانُ الأشجار تتشرّب الماء
يفيضُ عنها ويسيل إلى الجذور
لكن الظمأ يضيء الطريق.
محظوظ من يسافر إلى مكان آخر
ويشعر بالسعادة.
الشمس ليست هنا
لا تهتم النافذة بذلك.
قطع الأثاث في الغرف
تبدو في هذه اللحظة
كأنها مراكب غارقة.
الأشياء تنام وتستيقظ
إما مخمورة من الظلال
أو مخمورة...
في شارع نورث كلارك في شيكاغو
حيث يحرس المتسولون المفارق
ويتوزعون مثل ضربات ريشة سريالية
على كانفاس المدينة،
يقع بار ”غالاوي آرمز“.
كان باراً إيرلندياً
يحتفي كل عام بجيمس جويس.
داخل جدرانه الخشبية الداكنة،
وأنت تحدق بكأس بيرة سوداء،
تفتتح به المساء
في جو معتم،
ترفرف فيه ألحان إيرلندية
تحلق من...
-١-
لم تكن لنا
لم تكن لنا تلك الأمطار.
قطعان بنات آوى التي تمزق ليل القرى
بأسنان أصواتها جائعة.
الأشجارُ التي علتْ
تنطفئ روحها الخضراء مع الجمار
تحت الأيدي المرتجفة
والوجوه التي كانت طفلةً
صار لها تجاعيد
كما لو أن عبور الزمن هنا
صار أكثر وضوحاً من جرحٍ.
-٢-
لم تكن لنا
لم تكن لنا
تلك النعم...
كانت الأمواج مشغولةً بنفسها
على طرق المحيط.
لم تكن ذاكرتي تتحدث
كان كلّ شيء فيها هادئاً
غير أن مياهها كانت عكرة
لم أستطع أن أرى عبرها.
لم تحرك الأمواج شيئاً
على سطحها الراكد.
توالت شاشةُ بياضٍ أمام عينيّ
لثعبان ماءٍ نافر من نفسه
يخلع جلده الأزرق
على الطرقات البحرية
ويرتدي جلداً أبيض.
أيها...
-١-
مستعجلاً
مثل كلّ شيء
دون أن أفكّرَ إلى أين أمضي
أركضُ مواكباً عقرب الساعة
أو ربما أدور معه
مثبتاً به
أو معلقاً عليه
دون أن أعي،
أسمع التكتكة والرنين في حدقة عينيّ،
داخل أذنيّ وفي عقلي.
-٢-
عوضاً عن القدمين
ربما سيولد إنسان بعجلتين،
تتزحلقان على إسفلت الزمن
أو على جليده.
سيتحول الوجه إلى...
-١-
يؤكد الفراغ حضوره
لا شي يسندني فيه
أو يعانقني إلا السقوط.
ورغم أنني أحن أحياناً
إلى فراغ
يولد نقياً وصادقاً
حيث تصمت الكلمات،
وتصغي الأشياء
إلا أن الفراغ الذي أنا فيه
مجبولٌ من غيابكِ.
-٢-
لا أعني فراغاً
تتركه موجةٌ بعد أن تتلاشى،
أو جناح بعد أن يحلّق
أو أوراق شجرةٍ بعد الذبول.
أعني فراغاً...
-١-
جَذْع خشبٍ
طرحه المحيط،
أملس من مداعبات الأمواج
يشبهُ الجسد البشري
لكنه ليس جسداً.
الروح سكنت فيه مرة ثم هجرته
وانتقلت إلى غيره
ذلك أن الروح
تستأجر الأجساد
أو تشتريها
تسكن فيها قليلاً،
تمتص عروقها
تأكل وتشرب من دمها
ثم ترميها في النهاية.
-٢-
الروح التي سكنت
الجذع الخشبي
كانت تحب الثياب...
أَضَعْنا السماء في الليل،
لم نعد ننظر إلى النجوم
أو نفتش عن الكواكب
نسينا أسماءها،
والدروب إليها
لهذا أستعينُ بعينيكِ،
كي لا تضللني المجرات،
وأصغي دوماً لشفتيك
وهما تفتحان أمام عينيّ
كتابَ السماء.
من أجلكِ
بدأتُ أنظر للأعلى
أصعد للأعلى
وتصعد معي لغتي
ويصعد دمي
في شرايينه كي يرى.
تتحدثين معي...
-١-
لا نستطيعُ أن نحزن مثلكَ
يا طائر البلشون
لا نمتلك رقّة مشاعرك.
حين تجفّ البحيرات والينابيع
لا نبقى حولها مطأطئي الرؤوس وحزانى،
ونطلق تغريدات مأتميةّ.
لا نتريث
لا يغرينا وهم عودتها
لأننا أبناء الظمأ القديم
الذين تقودهم الصحراء
نعرف أن مياهاً جفّتْ لن تعود
وجسداً رحل لا ينبعث
وأن الريش...
لا أبحثُ عن مُكبّر صوتٍ،
أضحّي له بأذنيَّ
ولا عن وجهٍ
أجعل ملامحه وجهي.
أصغي لريح المحيط
وحين لا تقول أي شيء
سوى صوت هبوبها
أفهم طبيعة العالم
الذي أعيش فيه.
لا أصدق
إلا الفراغ أمامي
إلا بقايا ثلوج لم تذب
وصوراً ممزقة على الجدران
وشظايا زجاجات محطمة
وقامات تشبه الأشباح
نائمة على الأرصفة
لا رغبة...
-١-
”لا تدر ظهركَ للمحيط“،
هذا ما قيلَ له دوماً
على شواطئ المحيط الهادي.
-٢-
منذ أن تحدّث المتنبي
عن ما يتوقّعه المرء خلف ظهره
اتسع الفراغ،
وصار مكشوفاً ومبتذلاً.
-٣-
إذا أردتَ أن تسند ظهرك
هَيِّئ نفسك لسرعة السقوط
ثم الارتطام كنسرٍ منتحر.
-٤-
على شاطئ المحيط
تتقدم الموجة
كأن لا أحد غيرها
يحق له...