الفصل الثالث
خنّاق الصدر
هذا اليوم ليسَ كغيره كما يبدو ..دوارٌ في رأسه وبرودة في أطرافه وفتورٌ في حيله ..طعامُه البارد أعاد تسخينه مرّات عديدة ولا شهيّة له ..الرؤية ضبابيّة ولا مطر في الخارج ..رأسه ثقيل وميّالٌ للنوم .
خطر له أن يتّصل ليعتذر عن موعد المساء ولكن لا بأسَ إن تأخّر عنها...
وفي اليوم الثاني أحضر معه ساعةً رملية ووضعها على الطاولة عينها .. وبدأت حُبيبات الرّمل تخرّ رويداً .. وتكرّ تباعاً مخترقة عنق الزجاجة ..
وقالت ضاحكة :
- جلستنا اليوم موقوتة على ما يبدو ..
- لا يهمّكِ .. نصفُ ساعةٍ فقط ستمرّ .. وسأقلب الزجاحة الرملية بعدها والجلسة قابلة للتمديد .. إنما...
الفصل الأول
مخطوبان منذ فترة طويلة حتى ليكادا ينسيان تاريخ خطوبتهما ..
وزواجهما موعِدُهُ بظهر الغيب مرتبطٌ بحلّ أزمتهما ..وأزمتهما جزءٌ من أزمة البلد ..وأزمة البلد جزءٌ من أزمةٍ عالمية .. والأزمة العالمية محشورة حالياً في عنق الزجاجة كما يقول المحلّلون.
ولا حلّ لها كما يرى (أحمد) في فلسفته...
جال السائق الأفغاني بعينيه، يفتش بحيرة عمن يفّك له قطعة النقد فلم يجد في مقهى- النار البيضاء -سواي، لكنه تجاهلني لفراسة طبيعية فذة، أو لأنه وجدني أقرأ في كتابي الهزلي الذي وددت أن يبدد كآبة إفلاسي، فترفع عن مقاطعتي وظل مشدوهاً بجمال الفتاة الطاغي ذائباً يكاد يتلاشى، بينما كانت الفتاة تستثمر كل...
ماذا سأفعل له ليهشّ ويبشّ في وجهي .. ولو قليلاً .
وكيف سأبعد حاجبيه المقطبين
وكيف أفرّج الإنقباض من عضلات وجهه .. وأكسر الحدّة في نظراته ..
كيف أحرّك الحروف في سكناته.. فأمنع التقاء الساكنين ..
كيف أخفّف الشدّة فوق حروفه ..
كيف أحذف أفعاله الآمرة والناهية والمعتلة والعليلة
كيف أضع...
(يُنشَر هذا الفصل ضمن أجزاء من قصة حقيقية!، تصوّر صراع الأديب للوجود في عالم الكتابة اعتمادا على قصة واقعية)
الجزء الأول
في سكون الليل وضوء المصابيح الخافتة، يخلو بنفسه في غرفته مستلقيا في فراشه الوثير، مبحراً في عالم التأمل والحلم، مستعيدا مسلسل ذكريات آخر اتصال جمعه بأمل قبل أيام وما دار...
يعود متأخراً بعد أن يجنَّ الليل .. فإذا جنّ الليل ظهر جنونه واضطرم جنانه ..
حارته ضيّقة وبيوتها متلاصقة متداخلة وكأنها بيت واحد .. سكانها يعرفون كل شيء عن بعضهم .. فإذا اختلف مع زوجته ينشرون غسيله .. والشرفات تمدّ ذقونها .. والعيون تراقب والألسن تحيك قصصاً .. لذا يجب أن يعود إلى البيت بصخب...
ليس مريضاً عادياً .. يستمرض ويتطبّب ويتداوى .. فيتعافى
إنه حالة خاصة شذّت عن تلك القاعدة
فالمريض العادي يتلقى منّا إضافة إلى الدّعم الطبي احتراماً وشفقة ومساعدة كحالةٍ إنسانية مستضعفة .. أما هذا المريض فلا يتلقى إلا اللوم والتقريع إضافة للعجز الطبي عن شفائه
فالطب مايزال إزاءه مكتوف الأيدي...
هو مهندسٌ متخصّصٌ بالجيولوجيا... مهمّتُه استكشافُ المناجم .. واستطلاع خبايا الأرض والتنقيب عن النفط .. والإشراف على الحَفْر.
خبرتُه العتيقة جعلته يعرف التربةَ من رائحتها .. من لونِها .. يستعملُ أوصافاً تليقُ بالنساء..هذه التربة سمراء غنية .. وتلك شقراء شاحبة ... احذروا الأديمَ الأحمر شيمتهُ...
كلما رأيتكِ تمشين إلى جانبه تشتعل ناري .. فأسير خلفكما متخفياً .. كأنكما تسيران على قلبي .. أسايركما من بعيد .. تتحابّان وأتحرّق .. تتشابكان وأتمزّق ..تتحدان وأتفرّق
وناري لا صوت لها ولا ألسنة لهب .. ولا بصيص جِمار ولا دخان ولا رماد .. كالمكواة الكهربائية تروح وتجيء على قلبي .. ترسم عليه...
جاءكَ الموت قبل أن تحزمَ حقائبك وتربط سيور حذائك ..
قبل أن ترتّب سطح مكتبك .. وتصنّف أوراقكَ المبعثرة ..
جاءك الموت على حين غرّة .. لصاً داهمَك .. كان يتلصّص عليك كأفعى تنتظر بدهاء .. لها فيك لدغة واحدة ولكنْ ... قاتلة!
رحلتكَ بدأت الآن .. وما سبق من حياتك الدنيا كان استعداداً وتحضيراً...
بعد أن سمع الشيخ لتفاصيل الحلم المؤرّق ... تساءل قائلاً:
- وماذا حدث بعد ان انزلقتَ إلى حفرة الوحل؟
- حاولتُ الفكاك ونجحت
- وهل تخلّصتَ من بقاياه ؟
- نعم ولكنه علِقَ على شاربيّ فقط .. فلعقتهما وبلعتُ لعابي المخلوط بالوحل .. جفّفت نفسي ونظرتُ خلفي فرأيتها تغرِفُ من الطين وتصنع تماثيلاً على...
اليوم أكملتُ سنيني ..؟!
هكذا قال لي ملاك الموت :
اليوم دقّ ناقوس النهاية.. اثنان وخمسون عاماً .. بعدد أوراق اللعب ... فهل أحسنت اللعب على مسرح الحياة؟
فلا يقاسُ العمر بعدد السّنين ولكنْ بنوعيتها... هكذا أردف ملاك الموت:
( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ... )
إذا كان تمام...
ما كان عبدٌ أعظم من سيّده .. لا ولن يكون ... هكذا تعلّمنا
وسواد القوم دون سادتهم وأسيادهم .. فالناس مقامات
ولو كبرتَ أو استكبرت فهناك دائماً من هو أكبر منك .. تلك القواعد من محفوظاتنا أيضاً
ومن اعتلاك فانبطح تحته .. حافظ على حذائه لمّاعاً .. امسحه بأكمامك .. ويلكَ لا تتفل عليه قبل مسحه ...