محمد الرياني

في الطابقِ الخَامسِ حيثُ تقطنُ بعيدةً عن ديارِ الطفولة ، جلستْ على أحدِ المقاعدِ الخشبيةِ لتنظرَ إلى المارَّةِ الذين يروحون ويجيئون نحوَ السوقِ الذي اصطفَّتْ دكاكينُه أسفلَ البناءِ الكبير الذي تسكنُ فيه ، يومٌ هادئٌ نسبيًّا وافقَ يومَ إجازةٍ من عملها ، طائرُ الحمامِ هو الأكثرُ انتشارًا لالتقاطِ...
ظلَّ يَنظرُ إلى وَجهِها باهتمام ، التفتتْ إليهِ بِوجهٍ يقتربُ من القُبح ، يسألُ نفسَه عن معالمِها التي تُنْبئُ عن صَفحةٍ قاتمةٍ مِثلَ جلدِ قُنفذٍ وَحشيٍّ ،أو مُتقوقعٍ على نَفسِه من شِدِّةِ البرد ، يبدَأُ بتفسيراتِه التي لاتنقطع ، تُبادلُه الظُّنونَ وكأنَّها تريدُ الأسبقيةَ بالاتهام ، وَجْهُها...
جَلَستْ على الأرضِ وقد عكفتْ رُكبتيْها لتضعَ عليهما صندوقَ (جرّْبْ حَظَّك )ليراه الأطفالُ في مثلِ سنِّها ، في الوقتِ الذي يبحثُ فيه الصغارُ عن قُروش سوداءَ ضائعة في ترابِ الأزقةِ انفلتتْ من إزاراتِ الكادحين، تظلُّ تتأملُ في غيابِهم صورَ المشاهيرِ من الرجالِ والنساءِ على صندوقِ الحظِّ الذي تختفي...
شقيٌّ كأحلامِ الصغار ، تطاردُه فيهرب إلى الرملِ في الرَّمضاء ، ينتعلُ الرَّملَ خوفًا من الرمل ، تعجزُ عن اللحاقِ به ، تخشى على قدميه الصغيرتين من حرارةِ الأرض ، يضحكُ وهي تبكي ، تتألمُ لأنها طاردته في الحر ، وصلتْ إلى الرملِ ثم خلعتْ نعليْها ورمتْ بهما إليه ، استلمهما ووضعهما على صدره ، لم يلبثْ...
لأولِ مَرةٍ يذهبُ إلى صَالةِ المغادرةِ مُتأخرًا ، اعتادَ أن يَكونَ أوَّلَ الواصلين استعدادًا للسفر ، يعجبُه رؤيةُ حَركةِ المسافرين بكاملِ تفاصيلها ، فهذه امرأةٌ تطاردُ طفلَها وهو يتعثرُ بينَ أقدامِ المسافرين ، وتجذبُه رائحةُ القهوةِ على الرغمِ من أنه ليس صاحبَ مزاجِ مثلَ غيره على احتساءِ...
تعلَّقَ بخروفِهم الصغير الذي ترَّبى معهم في مهدِ الطفولة ، صغيرٌ وجميلٌ وناصعُ البياضِ ويقفزُ كالفراشاتِ البيضاء ، بل ويفرحُ بعينين برَّاقتين ، وإذا شَعرَ بالجفاءِ جاءَ ليدخلَ تحت الكراسي الحمراءِ في الفناءِ الواسعِ ليتمسَّحَ بظهره في باطنها ، يشعرُ المستريحون عليها بحركةٍ ناعمة ، ينظرون أسفلَ...
حَزِنَ كثيرًا لأنَّ الزهرةَ البيضاءَ انسلَّت بهدوءٍ نحوَ المجهول ، لَطالما ظَلَّ يتابعُها وهي تنمو وتنبتُ على تُربتينِ مُختلفتين ، سَابقةٌ فريدةٌ من نوعها أن ترى أصلًا يمتدُّ في جهتين متناقضتين ، يتسللُ نحو الطين يتنفسُ بهدوءٍ ويمتدُّ في بحرٍ من الملحِ بتربةٍ جرداء ، بزغتْ أوراقُها بجمالٍ غريب ،...
منذُ أن غابت ليلى عن (كاونتر) الاستقبالِ وهو عازفٌ عن شُربِ القهوة ، آخر مرةٍ شربَ فيه قهوةً كانت من صُنع يدها ، انسلّت من خلفِ الصفوفِ لتصبَّ له خُفيةً وتقول له إنها لم تُشرب أحدًا غيره من هذه القهوة ، قالت له حينئذ : هؤلاء الذين يحتسون القهوةَ لإزهاقِ الوقتِ يشربون قَهوةً من صُنعِ العاملاتِ...
ذهبَ إلى الطبيبِ بعد أن شَكَّ في دُخولِ حَشرةٍ صَغيرةٍ سوداء في أنفه يُسمُّونها عندهم ( نُقَدَة) ، أجلسَه الطبيبُ على كرسيٍّ أبيضَ مريح وراحَ يستمعُ إليه ، اشتكى في البدايةِ للطبيبِ من منخاريه الواسعين وكثرةِ الشَّعَر فيهما ، وأنه إذا عَطسَ في شمالِ الحيِّ يسمعونه من جنوبه ، ضحكَ الطبيبُ ومازحه...
قفْ يابدرُ عندَ المنتصف ، سترهقك المساءاتُ المقبلةُ عندما يفقدُ طلُّكَ الإطلالَ نحوي ، النصفُ الآخرُ منك يوجعني ، يتعبني أكثر ، يظلمُ ويظلمُ شيئًا فشيئًا حتى يفقدني النورَ الذي سكنَ من البداية ، الليالي القادمةُ ستجعلُ دموعي تنهمرُ أكثرَ في الظلام ، لن يراها أحدٌ في غيابِ بعضِك أوْ كلِّك ، لن...
حينَ اشتدَّ السوادُ بدت كلُّ التفاصيلِ قاتمة ، حتى عوارضُ السريرِ التي كان يمزحُ عليها بالتقلّبِ بين جنباتها لتحدثَ أصواتًا صمتتْ عن الاستجابة ، لم تعد تطلقُ موسيقَى المزاحِ التي يطربُ لها فتتحولَ الغرفةُ قاعةَ مسرح ، وَحدكِ - أنت- التي جئتِ من بعيدٍ وكأنَّكِ تجاورينَ الشمسَ لتعزفي اللحنَ...
العصفورُ الأصفرُ الذي احتلَّ جزءًا من نافذتِه المفضلةِ يُغيضه مع كلِّ زَفرةِ تغريدةٍ يُرسلها لعصفورتِه المنتظرةِ على الشُّباكِ الآخر ، اكتشفَ متأخرًا أنَّ العصافيرَ بينها عشقٌ يشبهُ العشقَ الذي تناقلته الأساطير ، العصفورُ الأصفرُ الجميلُ به ملامحُ بريئةٌ جميلةٌ تجعلُ الإناثَ يتسابقنَ نحوه...
تركَ على الأرضِ مخلفاتِ إصلاحِ دراجته ،آثارُ بقعِ الزيتِ والزيتُ الأسودُ المحترقُ وبعضُ القطعِ تشوِّهُ المكان ، أدارَ المحركَ فانطلقَ الصوتُ لتخرجَ أمَّهُ من الداخل ، قالت له : لم يُتعبْني أحدٌ في ولادته مثلك ، إخوتُك خرجوا إلى الدنيا بسهولة ؛ رؤوسهم إلى أسفل وأنتَ قَدَّمتَ قدميك مع الولادة ،...
قالَ لها منذُ زمنٍ لم نحتفل بزواجنا ! عندما قال لها ذلك كانت يدُها تفوحُ برائحةِ البهاراتِ والتوابل ، وقفَ ينتظرُ ردَّها عندَ عتبةِ المطبخ ، ردَّت عليه بأن الوقتَ غيرُ مناسبٍ ليقولَ لها هذا ، عيونُ الموقدِ تشتعلُ وفوقها أربعةُ قدورٍ للغداء ، كان ظهرُها يتجه إليه وهي تجيبه : دعنا نتناولْ طعامَ...
يَفتحُ الليلُ مفاتيحَ الظلام ، تَنطفئُ كلُّ مفاتيحِ النهار ،تسلِّمُ الشمسُ العهدةَ وتغوصُ في البحار ، النجومُ وَحدَها هي التي لايستطيعُ أحدٌ الارتقاءَ لحجبِ تلألؤها ، يعمُّ التثاؤبُ مع مرورِ الظلام ، تُغمضُ كلُّ الأشياءِ عيونَها حتى تلك السرجُ التي تبدأُ مع الغسقِ في إدخالِ البهجةِ وتعويضِ...

هذا الملف

نصوص
81
آخر تحديث
أعلى