في الطابقِ الخَامسِ حيثُ تقطنُ بعيدةً عن ديارِ الطفولة ، جلستْ على أحدِ المقاعدِ الخشبيةِ لتنظرَ إلى المارَّةِ الذين يروحون ويجيئون نحوَ السوقِ الذي اصطفَّتْ دكاكينُه أسفلَ البناءِ الكبير الذي تسكنُ فيه ، يومٌ هادئٌ نسبيًّا وافقَ يومَ إجازةٍ من عملها ، طائرُ الحمامِ هو الأكثرُ انتشارًا لالتقاطِ...
جَلَستْ على الأرضِ وقد عكفتْ رُكبتيْها لتضعَ عليهما صندوقَ (جرّْبْ حَظَّك )ليراه الأطفالُ في مثلِ سنِّها ، في الوقتِ الذي يبحثُ فيه الصغارُ عن قُروش سوداءَ ضائعة في ترابِ الأزقةِ انفلتتْ من إزاراتِ الكادحين، تظلُّ تتأملُ في غيابِهم صورَ المشاهيرِ من الرجالِ والنساءِ على صندوقِ الحظِّ الذي تختفي...
شقيٌّ كأحلامِ الصغار ، تطاردُه فيهرب إلى الرملِ في الرَّمضاء ، ينتعلُ الرَّملَ خوفًا من الرمل ، تعجزُ عن اللحاقِ به ، تخشى على قدميه الصغيرتين من حرارةِ الأرض ، يضحكُ وهي تبكي ، تتألمُ لأنها طاردته في الحر ، وصلتْ إلى الرملِ ثم خلعتْ نعليْها ورمتْ بهما إليه ، استلمهما ووضعهما على صدره ، لم يلبثْ...
تعلَّقَ بخروفِهم الصغير الذي ترَّبى معهم في مهدِ الطفولة ، صغيرٌ وجميلٌ وناصعُ البياضِ ويقفزُ كالفراشاتِ البيضاء ، بل ويفرحُ بعينين برَّاقتين ، وإذا شَعرَ بالجفاءِ جاءَ ليدخلَ تحت الكراسي الحمراءِ في الفناءِ الواسعِ ليتمسَّحَ بظهره في باطنها ، يشعرُ المستريحون عليها بحركةٍ ناعمة ، ينظرون أسفلَ...
منذُ أن غابت ليلى عن (كاونتر) الاستقبالِ وهو عازفٌ عن شُربِ القهوة ، آخر مرةٍ شربَ فيه قهوةً كانت من صُنع يدها ، انسلّت من خلفِ الصفوفِ لتصبَّ له خُفيةً وتقول له إنها لم تُشرب أحدًا غيره من هذه القهوة ، قالت له حينئذ : هؤلاء الذين يحتسون القهوةَ لإزهاقِ الوقتِ يشربون قَهوةً من صُنعِ العاملاتِ...
ذهبَ إلى الطبيبِ بعد أن شَكَّ في دُخولِ حَشرةٍ صَغيرةٍ سوداء في أنفه يُسمُّونها عندهم ( نُقَدَة) ، أجلسَه الطبيبُ على كرسيٍّ أبيضَ مريح وراحَ يستمعُ إليه ، اشتكى في البدايةِ للطبيبِ من منخاريه الواسعين وكثرةِ الشَّعَر فيهما ، وأنه إذا عَطسَ في شمالِ الحيِّ يسمعونه من جنوبه ، ضحكَ الطبيبُ ومازحه...
حينَ اشتدَّ السوادُ بدت كلُّ التفاصيلِ قاتمة ، حتى عوارضُ السريرِ التي كان يمزحُ عليها بالتقلّبِ بين جنباتها لتحدثَ أصواتًا صمتتْ عن الاستجابة ، لم تعد تطلقُ موسيقَى المزاحِ التي يطربُ لها فتتحولَ الغرفةُ قاعةَ مسرح ، وَحدكِ - أنت- التي جئتِ من بعيدٍ وكأنَّكِ تجاورينَ الشمسَ لتعزفي اللحنَ...
قالَ لها منذُ زمنٍ لم نحتفل بزواجنا ! عندما قال لها ذلك كانت يدُها تفوحُ برائحةِ البهاراتِ والتوابل ، وقفَ ينتظرُ ردَّها عندَ عتبةِ المطبخ ، ردَّت عليه بأن الوقتَ غيرُ مناسبٍ ليقولَ لها هذا ، عيونُ الموقدِ تشتعلُ وفوقها أربعةُ قدورٍ للغداء ، كان ظهرُها يتجه إليه وهي تجيبه : دعنا نتناولْ طعامَ...