قصة قصيرة

مشهد لا يمكن أن يعود شخص لسرده. على ضوء القمر المسترسل بفجاجة، تبزغ قامات من على جدر منخفضة وتهبط كحجارة ثقيلة - داخل السور - وتثب من مكان هبوطها عجلة ربما تنفض أرديتها البيضاء وربما لا تحرص على ذلك، تتشعّب خطواتها في سباق محموم، وتندس هناك بسرعة فائقة وكأنها تلعب لعبة الاختباء، ليعود الصمت...
كل من في الحي الصغير، بقشلاق السجون في مدينة القضارف، في تلك الأيام، كان يتحدث فقط عن السكان الجدد، الذين استغلوا البيت الفارغ، المجاور لبيتنا مباشرة، كان بيننا باب جيران صغير فتحه الساكنون القدامى. أسرة صغيرة، تتكون من زوج فقط، تعمل الزوجة جاويشا بالسجن، يقال إن الزوج يمتهن صناعة كراسي...
دخلت القاعة الواسعة بخطوات ملسوعة، يلاحقها لسانها الملتهـج بصباح الخير صباح الخير، توزعها آليا على زملائها الذين سبقوها إلى مكاتبهم، وبمجرد أن وصلت آخر القاعة، مكان مكتبها؟ ألقت بحقيبتها فوقه، ويجسدها المنهك على الكرسي الخشبي القديم، المتبقي كتذكار حي من زمن تغلغل النفوذ الأجنبي في البلاد، قبل...
الإسكندرية في 19 / 7 / 1941. أخي وصديقي العزيز...إنك تعرف رأيي في "عجر" وفي أراء "عجر" حينما يشطح عن تدريس العربي إلى أفكاره الفلسفية. ولكن حدث ما قد خيب ظني، لقد كان "عجر" دائمًا ينفخ كرشه العظيم ومن أعمق أعاميقه يقول: "جورج ده ولد مستهتر" لم أكن أعني بالتعليق على هذه الجملة.. ولكن حدث أخيرًا...
لم يشغلنا محتوى الأمر الذي أطلقه السجّان كم خلف شبّاك المهجع بنبرة جافة، حاسمة: (ضبّوا غراضكم)، لأننا كثيراً ما ضببناها وحملناها منتقلين من مهجع إلى مهجع، بل شاغلتنا حركة أخرى، مباغتة تماماً: حين جمعونا أمام غرفة التفتيش وشرعوا يسلّموننا الأمانات التي كنّا أودعناها يوم دخولنا قبل سنوات. وسط...
يترك السرير ويقترب من المساحة القليلة التي تنام فيها. تمتدّ كفّ يده الكبيرة إلى وسادتها وتتبعها الكفّ الأخرى. يستولي على وسادتها. قامته الطويلة تحجب عنها النسيم الداخل من النافذة. (تمرّ لحظات ليليّة, تذكّرني بماض كانت تهدهدني فيه النسام الدافئة, التي تلهو بأغصان الأشجار الكثيرة المحيطة...
هكذا يوحي ليل المدينة, وعشرات العمارات واقفة مثل أشباح أسمنتية, تترقب لحظة الانقضاض, حتى وهي مغمضة العيون. والعيون مغمضة بشيش مترب. كل ذلك وغيره يجعلني أفرط في تفادي مواجهة حقيقة لاذعة المرارة, أنني أسكن وحدي في الطرف الأقصى من الدنيا, فعندما تحتقن السماء بسحب داكنة, وتغرق المدينة في صمت مؤسٍ...
على البوابة الخارجية الواسعة المسيجة بشبكة من الحديد التخين، اعترضني فريق كامل من الحرس في ثياب مدنية. من شباك السيارة قدمت لهم بطاقة الدعوة المختومة بخاتم تفحصوه جيدا وتأكدوا أنني لم أقم بتزوير هذه البطاقة. انحنى أحدهم على شباك سيارتي وطالبني ببطاقة تثبت هويتي. بقليل من الزهو قدمت له بطاقتي...
ـ زمن الحرب شوارع لا يمر فيها أحد, وعمارات خالية من السكان. ساحة للفراغ, صارت خارج الوقت والمكان, تعبرها من حين لآخر نساء ملثمات يرتدين الجلابيب السوداء, عبورا كأنه يتم في أوهام المدينة أو خيالاتها أو في ذاكرة من عاشوا فيها قبل هذا الزمان, فلعلهن النادبات. طيور محنطة محمولة على أصابع من حديد...
يستيقظ صباحًا, ويغادر فراشه بعد تردد, ثم ينتصب على أرض غرفته الملساء ذات المربّعات الملوّنة أشكالها الهندسية بألوان حمراء وزرقاء وخطوط سوداء وبيضاء. استيقظ?.. لا.. فهو لم ينم ليستيقظ من نومه. لم ينم لأنه كان مسكونا بالأرق.. جرّب أن ينام.. ولكن.. لا.. النوم لم يزره ولو لدقيقة واحدة, عيناه...
ما كان لي أن أتصور عودتي إلى محلتنا القديمة (باب الشيخ) بعد أكثر من عشر سنوات, لكن تلك العودة تحققت حين فتحتُ لي مكتبا للمحاماة مطلا على شارع (الكفاح) فوق أحد المقاهي المجاورة لمخزن (عبد الله الشيخلي). كانت في الأساس فكرة أبي, الذي ذكّرني بأن أهالي (باب الشيخ) هم أهلنا وهم الذين قد يلجأون إلينا...
رأيتك يا إيكاروس عندما سقطت في الماء, رأيت رأسك الصغير كحجر بلا ملامح, أو كوجه فأر عجوز يحتضر. وسمعت - نعم سمعت - شهقة الموجة التي جاشت على سطح البحر الإيجي بعد أن ارتطم جسدك الشاب بسطح العنصر الأبدي السيّال. سألت نفسي إن كنت قد شهقت أيضًا أو تأوّهت. وتفحصت لوحة الفنان لعلي أتبيَّن دموعًا تسقط...
المقهى الجديد في الحي القديم لفت انتباهه بنظافته غير العادية فقرر أن يكون جلوسه فيه، وحده أو مع أصحابه أو من يشأ لقياه. الحوائط لامعة لأنها مغطاة بالسيراميك الوردي الجديد، والأعمدة أكثر لمعانا رغم أن لون السيراميك حولها يميل إلى البني، أما الأرض فهي أكثر لمعانا من الحوائط والأعمدة رغم اللون...
الحكيم خرجت أمي من الليوان إلى أرض الدار، ونادتْ دون انتظار ردٍّ من أختي هدلا: صار وقت الإفطارِ يا هدلا. ولم تولِ أمي انتباهاً إلى أن هدلا كانت تنزلُ زاحفة، نحو الخلف على الدرج، وهذه كانت طريقةُ ابنتها في النزول، وفي الصعود من، وإلى عليتها. كانت هدلا تضحك بصوت أبله متهدج، وقد اعتدنا على...
السماء مكفهرة ملبّدة بالغيوم, ولكنني مع ذلك مضيت إلى كشك الهاتف وسط المدينة, هذا الطقس لن يشجّع الكثيرين على الازدحام أمامه. أخيرًا جاء صوتها: آآلو...مَن يتكلّم?! اه, يا للصوت المخيف, مشوّش, لكنه مرتجف يهتزّ في إيقاع مرعب, كأنه صوت حقيقي لشبح قادم من العالم الآخر! ماذا أفعل? - آآآآآلو...
أعلى